تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويتجه على هذا النظر الفلسفي المحض الذي ابتدع فكرة الحريات العامة، ضماناً يقي من العسف السياسي، أن هذه الحريات المطلقة قد بقيت هي نفسها دون ضمان يقي من سوء ممارستها، أو اتخاذها مطية للعسف بالنسبة إلى الغير من الأفراد والمجتمع، ولا يعقل في تشريع ما، يقيم للعدل والمصلحة المعقولة وزنهما، أن يمنع العسف ليقع في عسف مثله، أو أشد خطراً، لذا ترى الإسلام قد أقام فلسفته التشريعية على أساس تضمين المعنى الإنساني والاجتماعي مفهوم الحرية، ضماناً كافياً للحيلولة دون الاعتساف في ممارستها، وناط بهذا المعنى مفهوم العدل، بأن جعل بينه وبين المشروعية تلازماً، بحيث إذا انتفى المعنى الاجتماعي في التصرف الفردي، انتفت المشروعية وسقطت، ولا سيما عند تعارض الحرية الفردية مع المصلحة العامة، كما بينا، وهذا أصل مقطوع به، ومجمع عليه، تحقيقاً للتوازن عملاً وواقعاً، ثم أقام الحق والحرية على أساس التكليف المؤيد بالعقيدة، ضماناً للتقيد بالمعنى الإنساني، لأنه يستند إلى أصل اعتقادي قبل أن يكون تدبيراً تشريعياً أو سياسياً محضاً، ومن هنا نشأت "الوظيفة الاجتماعية" للحق والحرية التي هي أساس التكافل الاجتماعي الملزم، أو "جهة التعاون" واستخلص العلماء من هذا –كما رأيت- المبدأ العام الذي هو قوام الحريات والحقوق ومؤداه أن "حق الغير محافظ عليه شرعاً" وهو حق الله تعالى في كل حق فردي، بما يحقق من معنى "العدل الاجتماعي" في الإسلام.

وقد أفضى هذا النظر الفلسفي المتطرف من جانب الفرديين، إلى مآس وفواجع ظلت أوروبة تعاني منها إلى عهد قريب، ولا سيما بعد ظهور الإنتاج الكبير نتيجة للتقدم الصناعي، بما أباحت للفرد من تأثيل الثروات، بأي طريق كان، فأجازت الاحتكار، والتعامل بالربا، ولو مضاعفاً، وسائر صنوف الاستغلال، أثراً للنزعة الفردية المتطرفة، وصدى للإطلاق في التصرف، ولسقوط المعنى الإنساني من مفهوم الحق الفردي، وهو خلاف سَنَن المشروعات في الإسلام.

هذا، وإذا كانت الأديان والشرائع السماوية كافة قد أجمعت على أن للاعتقاد الحق سلطاناً بالغ الأثر في ميدان النفس الإنسانية، لا يرتقي إلى مستواه أثر العلم، أو توجيه العقل، أو سلطان الضمير، ولا سيما في توجيه الغرائز وتسديدها، فإن الإسلام يمتاز بشيء واحد، هو أنه رتب النتائج العملية للأصول الاعتقادية، في تشريع وتكليف ملزم قائم على موجهات العدل الاجتماعي ومبانيه حقاً مشتركاً بين البشر حتى الأعداء، وهو مبدأ رائع حقاً لا تجد له نظيراً في الشرائع، ولن تجد بديلاً عنه يفضله في مستقبل البشرية –فيما أعتقد- وهو قوله تعالى: (ولا يجرمنَّكم شنآنُ قومٍ على ألاَّ تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى (56) ".

وتأسيساً على هذا، فلا الحريات العامة في الإسلام قد ابتدعت كضمانة لمنع الاستبداد في الحكم، ولا الحكم نفسه –في الإسلام- قائم على أساس السلطة المطلقة التي يتصرف فيها الحاكم فوق ما يشاء ويهوى، لأن الحكم في الإسلام قائم على أساس تشريعه العادل، وأن الظلم هو عدو الإسلام الأول، وليس أمر التشريع بيد الحاكم، بل لم يُجعل لأحد، ولو كان نبيَّاً مصطفى، لقوله تعالى مخاطباً نبيه (: "ليس لك من الأمر شيء" وإنما السنة وحي أيضاً من عند الله، معنى، لقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى" جاءت تفسيراً للقرآن، أو تفصيلاً أو تقريراً على ما هو معروف وأما التشريع فلله وحده، لقوله تعالى: (إن الحكم إلا لله (فمشكلات أوروبة، وما نجم عنها من فلسفات تتصل بالتشريع، ليست موجودة أصلاً في الإسلام.

الثالث: على أن اتصال "حقوق الإنسان" بالتكليف الملزم القائم على عنصر الاعتقاد منذ أنزل هذا التشريع على الأرض وحياً، ضماناً لعدم الانحراف في ممارستها، وتوطيداً لكونها "وسائل عملية" لتحقيق المقاصد الأساسية للمجتمع الإنساني، من مثل حرمة النفس الإنسانية، ومثلها العليا، وقيمها الخالدة، وفي مقدمتها "الدين" وبه تكوين إنسانية الإنسان، ثم "العقل الإنساني العام" في ملكاته وطاقاته التي لا حدود لها، حفظاً له من كل ما يشل هذه الطاقات، ووجوب تنميته بالعلم المفروض طلبه، ثم النسب حفظاً للأجيال الخالفة، ولاستمرار تعهد الآباء بالأبناء، وصوناً للعرض والشرف، ثم "المال" ووجوب تنميته واستثماره، وعدم الإسراف فيه، أو التقتير، أقول: إن

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير