والحياة، ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً (.
وعلى هذا، فالإطلاق في الحريات العامة والحقوق، في التشريع الإسلامي، لا يستقيم مع عنصر التكليف فيه، كما ترى.
وبيان ذلك، أن التكليف إذا كان معناه توجيه الخطاب إلى الإنسان البالغ العاقل (المكلف) بواجب يطلب إليه أداؤه شرعاً، إيجاباً أو سلباً، كما أسلفنا، فإن هذا الواجب لا بد أن يقابله "حق" ينشئ سلطة تمكن المكلف من الأداء، وإلا تعذر النهوض بالتكليف، ومن هنا قيل: "لا حق حيث لا واجب". والتكاليف إذا أديت، كانت حقوقاً للغير قطعاً، فبالتكاليف تصان حقوق الناس بعضهم قِبَل بعض، ولا مِرْية أن إطلاق الحق أو الحرية، لا يستقيم مع هذا التكليف، لأنه مقيد به، وعلى النحو الذي رسم.
حياة الإنسان –في التشريع الإسلامي- ليست حقاً خالصاً له، بل هي مشوبة بحق الله تعالى، وحق المجتمع، تنفيذاً لأمانة التكليف، وتفسيراً لمعنى استخلافه في الأرض:
حق الحياة –في الإسلام- قائم أساساً على حقائق نفسية عقائدية، قبل أن يكون تدبيراً دستورياً أو سياسياً، فكان مظهراً للعقيدة أولاً، وقبل أن يكون منتظماً أو مُفرغاً في نص دستوري آمر، ذلك لأن الإنسان نفسه، لم يُخلق عبثاً، ولن يترك سدى، فحقوقه وحرياته كذلك، لم تمنح له عبثاً.
ومن هنا حرم الإسلام "الانتحار" وهدد الشرع عليه بأشد العذاب، فلا يملك الإنسان إسقاط حقه في الحياة، بإتلاف نفسه، أو تسليط غيره على هذا الإتلاف، أو تعريضها للتهلكة، دون مقصد شرعي هو أعلى منها اعتباراً، كالجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، لقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (وقوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق (وقوله تعالى: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها، فكأنما أحيا الناس جميعاً (وقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم (.
فحياة الإنسان إذن، ليست ملكاً خالصاً له، في شِرعة الإسلام، وإنما هي ملك لباريها، قد منحها الإنسان حقاً، ليتمكن من أداء رسالة التكليف، ولا ريب أن إزهاقها عبثاً، قطع له عن أدائها، ومناف لمقصد الشارع من منحه حق الحياة أصلاً، فكان جريمة كبرى، بدليل لازمها من العقاب الأخروي الشديد (95).
وفي هذا المعنى، يقول الإمام الشاطبي:
"ونفس المكلف داخلة في هذا الحق –حق الله- إذ ليس له التسليط على نفسه بالإتلاف (96) ". والانتحار ثابت تحريمه بالسنَّة الثابتة.
هذا في النفس، وكذلك المال جارٍ على هذا الأسلوب، فلا يملك الإنسان إتلاف ماله عبثاً، لأن حق المال ممنوح له شرعاً، لتمكينه من أداء وظيفته الاجتماعية، تحقيقاً لمبدأ التكافل، وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي:
"فإذا كان –المال- في يده، وأراد التصرف فيه وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع فلا (97) .. ".
وأكد هذا المعنى الإمام القرافي أيضاً فيما إذا أراد المالك تضييع ماله بإلقائه في البحر، مثلاً، فإن الشارع يحجر عليه، لأن المال خلق عوناً له في دنياه وآخرته (98) .. " كما حرَّم الإسراف، إذ كل إسراف، فيه حقٌّ مضيَّع، كما حرم التقتير والاكتناز، وكل ذلك مخالف للغرض الذي من أجله منح المال للأفراد عن طريق اكتسابه بالطرق المشروعة، ولأن للمجتمع حقاً في هذا المال، كما بينا آنفاً، هذا مثال لتكافل الإنسان مع نفسه في حياته وماله.
-أما بالنسبة لتكافل الإنسان مع غيره، فذلك متوقف على تحديد معنى المصلحة التي شرع من أجلها الحق أيضاً.
قد يتبادر إلى الذهن، أن المصلحة التي شرع الحق الفردي من أجلها في الإسلام، هي مجرد المنفعة التي يجنيها صاحب الحق، ثمرةً مباشرة لتصرفه فيه، أو لاستثماره له، وممارسته لسلطاته، وفي جميع الأحوال، ولكن هذا النظر فردي محض غير سديد، لأنه مؤذن بالتغاضي عن تأثير اختلاف العوارض والظروف، في مشروعية ممارسة الحق شرعاً، تبعاً لما لذلك من مآل ينتاب المجتمع.
وقد أشرنا من قبل، إلى أن هذه "العوارض" قد تكون نفسية وإرادية، (بواعث) وقد تكون عوارض خارجية لازمة، وغير إرادية، (ظروف ملابسة) ومع ذلك، فإن لها في الشرع أثراً في تكييف التصرف بالمشروعية وعدمها، تبعاً لطبيعة تلك العوارض، ومدى تأثيرها، نفعاً أو ضراً، من خلال النتائج والمآلات (99).
¥