وأيضاً، قد قررنا الأصل المعنوي العام الذي يحكم التصرفات الفردية كافة من خلال مآلاتها في الظروف المحيطة، مؤداه: "ان كل فعل –في الأصل- مشروع، يصبح غير مشروع، إذا أفضى إلى مآل ممنوع (103) ".
ولا يخفى بعد هذا الذي قدمنا، ما في أصول هذا التشريع العظيم، ومنهج الاجتهاد فيه، مما ينهض بنظريته العامة في الحقوق كافة، ولا سيما "حقوق الإنسان" ما يقيم الدليل البين على خصوبته، ومرونته، وقدرته الفائقة على مجابهة كافة الاحتمالات والظروف في كل عصر وبيئة، وإمداده إياها بالحكم المناسب على ضوء النتائج المتوقعة والواقعة على نحو يحقق مقاصد التشريع في المجتمع الإنساني، وبما يحفظ "التوازن" بين الفرد والمجتمع، ويربطها معاً حياة ومصيراً، بعد تأصيل حق كل منهما، كقيمة محورية للتشريع كله وما يستهدفه من مصلحة يختص بها كل منهما، على سواء، دون تناقض أو تطرف نحو اليمين أو اليسار، مع العمل واقعاً بالمصلحة الراجحة، عند التعارض المستحكم، تحقيقاً عملياً للتكافل الاجتماعي والسياسي والعسكري والاقتصادي، لأن كلاً منهما في كفالة الآخر على وجه ملزم، ويصون الإسلام المصلحة العامة كما رأيت تدعيماً لها، ويزيل العوائق التي تعترض سبيل نموها، وازدهارها، وتقدمها، بدليل ترجيحها عند التعارض، ووقايتها من مآلات تصرفات الأفراد قبل الوقوع، واعتبارها أقوى صور العدل في التشريع، دون افتئات على المصلحة الفردية، وشخصية الإنسان المعنوية، بحفظ حقوقه المادية والمعنوية، ولكن بمضمونها الاجتماعي والإنساني كعنصر جوهري ترتبط به مشروعية التصرف، وهو معنى جديد أتى به الإسلام في مفهوم حقوق الإنسان، وبما مكَّن هذا التشريع للمثل العليا، والقيم الإنسانية الخالدة، توجيهاً للمجتمع والأفراد، بل حملاً لهما على الارتقاء إليها، وتحقيقها أو الاقتراب منها، حتى لا يُخْلِد إلى الواقع على علاته، يساعده في ذلك العقيدة النقية الراسخة، منبع الأصول الأخلاقية، فكان بذلك مثالياً وواقعياً معاً، وجامعاً بين مطالب الجسد والروح، ومصالح الفرد والمجتمع، وهذه خصائص انفرد بها الإسلام وحده، فصدقت بذلك قضية كماله وخلوده، ونكتفي بهذا القدر، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الدكتور فتحي الدريني
الدكتور فتحي الدريني. رئيس قسم العقائد في كلية الشريعة- بجامعة دمشق.
له من المؤلفات: 1 - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي. 2 - أصول التشريع الإسلامي ومناهج الاجتهاد بالرأي. 3 - الفقه المقارن مع المذاهب. 4 - الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده. 5 - نظرية التعسف في استعمال الحق بين الشريعة والقانون. 6 - خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم. 7 - حقوق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن. 8 - النظريات الفقهية.
الحواشي
(1) أصول القوانين –ص 61 وما يليها –للأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري، والدكتور حشمت أبو ستيت- أصول القانون- ص 158 و ص542 - للدكتور حسن كيرة.
(2) ويرى الإمام الشاطبي والإمام الغزالي، أن حكمة التشريع هي المهيمن على النص، تحدد معناه، وترسم مجال تطبيقه –راجع مؤلفنا "الفقه المقارن" ص 48 وما يليها –شفاء الغليل- ص 60 - للإمام الغزالي.
(3) الموافقات –جـ2 - ص 331. للإمام الشاطبي.
(4) المرجع السابق –جـ2 - ص 333.
(5) يقول صاحب منح الجليل: والوسيلة لا تشرع عند ظن عدم ترتب المقصود عليها –جـ2 - ص102 - ص103.
(6) الموافقات في أصول الشريعة –جـ2 - ص385 - 387 - هذا، وخصائص التشريع تنحدر من مقاصده وغاياته.
(7) الفروق –جـ3 - ص 171 - .
(8) المرجع السابق.
(9) ولهذا كانت الجهالة التي لا يمكن استدراكها أو إزالتها في الموصى له، مبطلة للوصية، إذ لا يمكن معها تنفيذ الوصية، وتحقيق الغاية منها، من تسليم الموصى به إلى الموصى له المجهول، فلا تكون الوصية مفيدة، وكل تصرف لا يفيد فهو عبث، والعبث يخل بمقصد الشارع، و ينافي حكمة التشريع – الهداية جـ4 - باب الوصايا.
(10) المراجع السابقة.
(11) الموافقات –جـ2 - ص 385.
(12) وفي هذا إشارة إلى أن الأحكام شرعت وسائل لغاياتها هي المصالح التي تنهض بحكمة التشريع، وهي روح النص وملاك أمره، وعنصر معقوليته.
(13) وهذه هي ثمرة التصرف بسلطات الحق، ومكنات الإباحة أو الحرية العامة، وهي مشروعة في الأصل، لاستنادها إلى حق أو حرية عامة.
¥