لا يمكن الاستجابة للحاجات المتنوعة في طبائعها والمتكاثرة، والمصالح المتجددة عبر العصور بحكم سنة التطور في الحياة الإنسانية والوجود البشري ـ ثمرة طبيعية للفكر الإنساني المبدع بحكم فطرته ـ إلاّ بالاجتهاد من أهله، وبذل الطاقة العلمية والفكرية إلى أقصى حدودها وإمكانياتها فكان (الاجتهاد) لابد منه ولا غنى عنه، فضلا عن أن (الاجتهاد) استجابة لواقع خصيصة الإبداع الفكري المغروسة في فطرة العقل نفسه، ولكن في (حدود الشرع) وإلا كان (التخلف) و (الانتكاس) وفقدان التوازن مما لا يتفق وأصول الإسلام قطعا، إذا قد اتجهت إرادة الخالق ـ جل وعلا ـ إلى إقامة مقاصد الشريعة وتنميتها، وحفظها، وهذه المقاصد العامة العليا الأساسية هي (مبنى المصالح العامة والفردية) للمجتمع الإنساني لا الإسلامي فحسب في كل عصر وبيئة، ولكن من حيث وضع الشارع لها، لا من حيث مطلق إدراك المكلف إياها (20).
لا مجال للأهواء:
وفي هذا المعنى يقول ما نصه: (المصالح المجتلبة شرعا، والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية) ويقيم بعض الأدلة على هذا المعنى بقوله: (إنما جاءت ـ الشريعة ـ لتخرج الناس عن دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عبادا لله اختيارا كما أنهم عبيد لله اضطرارا (21).
على أن الاجتهاد في المصالح ـ نظرا وتحقيقا ـ إنما ينصب أساسا على تحديد خصائص الأفعال التي تناسب تحقيقها؛ لأن (المصالح) من حيث هي غايات تستهدفها الأفعال التي تتسم بخصائص مناسبة معينة لذلك التحقيق. وأما الاجتهاد في الحكم الشرعي؛ فمنصب على بناء تلك الأفعال وتشريعه لها على نحو يغلب على الظن إفضاء هذا الحكم إلى تحقيق غايته من المصلحة المعتبرة، بحيث يفرعه عن كليه لا يريم عنه، ولا ينافيه، وإلا كان الاعتساف، وهذا لا يتم ـ عقلا وواقعا ـ إلاّ بأعمال الاجتهاد، فثبت أن (التقليد) الذي هو عري عن الدليل ـ جزئيا وكليا ـ أو (التعصب) لرأي مجتهد كليهما ضرب من ضروب (الهوى المتبع) وذلك مناف قطعا لهذا الأصل العام، وفي هذا المعنى يقول الامام الشاطبي: (لذلك احتج إلى فتح باب الاجتهاد ... ) فلا يجوز إغلاقه بأي حال من الأحوال، ويعلل ذلك بقوله: (فإما أن يترك الناس مع أهوائهم، أو ينظر إليها بغير اجتهاد شرعي ـ أي تقليدا أو تعصبا ـ وهو أيضاً (اتباع للهوى) وذلك كله فساد فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية وهو معنى (تعطيل التكليف لزوما) (22).
والتعطيل: اطراح العمل بشرع الله بالكلية.
وتفسير ذلك: أن الامام الشاطبي يشير بقوله: (ترك الناس إلى أهوائهم) إلى أن افتقار الناس إلى أحكام شرعية تستجيب لما يستجد لديهم من الوقائع والمشاكل ـ قد تكون معقدة ـ وما ينزل بساحتهم تترى من الأحداث الطارئة: السياسية منها، والاقتصادية، والاجتماعية، ثم تقاعد المجتهدون عن إمدادهم بالحلول الملائمة المستمدة من روح الشرع، ومفاهيمه الكلية فإن هذا (التقاعد) يلجئهم قسرا إلى أن يشرعوا من عند أنفسهم، وأن يتبعوا ـ في هذا التشريع ـ أهواءهم أو أن يضطروا إلى الاستعانة بما عند الأجنبي من التشريعات التي لا تقوم على أصول الإسلام وشرعه بل تقوم على النظر العقلي المحض وهذا محرم قطعا وبالإجماع، لأنه تشريع مناف لشرع الله وأحكام من غير ما أنزل الله!!.
وهذا مفاد قول الامام الشاطبي: (أو نظر إليها بغير اجتهاد شرعي مما يرونه ملائما للطارئ من الأحداث) ومعلوم أن (التحكم) ممنوع ومحرم شرعا، لأنه يتنافى مع (قاعدة اعتبار المصالح المعتبرة في الأحكام).
وعلى هذا كان (التحكم المذهبي) بالتقليد، أو التعصب بالهوى منافيا رأسا (للتحكيم الشرعي) الذي نصت على وجوبه صراحة الآية الكريمة من قوله عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) (23)، أي لا يحكمون أهواءهم.
وأيضا أن التعصب مذهبيا يحول بالضرورة دون (التقريب بين المذاهب) بل يوسع من شقة الخلاف بينهما المؤدي بدوره إلى اختلاف المسلمين فيما بينهم على أمر تشريع ربهم، فضلا عن أن (المتعصب مذهبيا) إنما يبتغي دوما نصرة مذهبه، لا نصرة شرع الإسلام وكل ذلك فساد محرم، بل يجب الحيلولة دون وقوعه، مما يشكل بالتالي عاملا مؤثرا في الإخلال بتوازن المجتمع الإسلامي كله، إخلالا يتناول (مقوماته المادية والمعنوية) على السواء، وهذا مما لا يجوز شرعا المصير إليه فما أدى إليه مثله!!.
أما الاختلاف اليسير فيما يتعلق بالنصوص الظنية، أو ما يشبهها من تقدير خصائص الأفعال، وما تقتضيه من أحكام يغلب عن الظن إفضاء تنفيذه إلى المصالح الحقيقية المعتبرة، فذلك ليس اختلافا جذريا، ولا تناقضا مستحكما يستحيل معه التوفيق؛ لأنه مما تقتضيه فطرة البيان القرآني نفسه ـ على حد تعبير الامام الشافعي في كتابه (الرسالة) بحكم كونه من لوازم الاجتهاد ولا يحول دون التقريب بين آراء المجتهدين، ثم هو أخر الأمر لا يخل بتوازن المجتمع في أي كياناته مما يسعف بالتالي على (إنجاز التقريب) الذي يجعل السبيل إلى تحقيق (الوحدة الإسلاميّة) ميسرا، بل يفضي إليها تلقائيا بحكم وحدة الأصول العامة والمفاهيم الكلية، والمقاصد الكلية الأساسية العليا التي هي مباني (المصالح) للامة والأفراد، وذلك هو مقصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء.
1 ـ الموافقات في أصول الشريعة 3: 266.
2 ـ النحل: 44.
3 ـ الموافقات 2: 63.
4 ـ الموافقات 3: 169 بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. دار الفكر ـ بيروت.
5 ـ المرجع السابق 2: 62 بتحقيق الشيخ دراز ـ دار المعرفة ـ بيروت.
6 ـ الأنعام: 104.
7 ـ آل عمران: 103.
8 ـ الأنبياء: 92.
9 ـ الانفال: 46.
10 ـ النساء: 82.
11 ـ الموافقات 2: 37.
12 ـ الموافقات 2: 138.
13 ـ الموافقات 4: 196 وما يليها.
14 ـ الموافقات 2: 64 بتحقيق الشيخ دراز.
15 ـ الموافقات: 4: 142 وما يليها.
16 ـ المرجع السابق.
17 ـ المائدة: 67.
18 ـ النساء: 105.
19 ـ الأحكام السلطانية: 5 وما يليها.
20 ـ الموافقات 2: 27 بتحقيق الشيخ دراز.
21 ـ المرجع السابق: 38 وما يليها.
22 ـ المرجع السابق 4: 104.
23 ـ النساء: 65.
¥