وعلى هذا، صح أن كل ما هو موجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو بعينه موجه إلى (المجتهد الحق) في كل عصر، وبيئة، غير مقلد ولا متعصب لرأي إمامه، بل هو مأخوذ رأسا بوجوب التلقي عما بلغ النبي من رسالته، إذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إمامه، وموروثه، بيانا ومعاني، ومباني وكليات، ومقاصد لا يرم ذلك انحرافا أو تقولا أو تبديلا، وتزيدا قيد أنملة! وإلا انخرمت الأمانة، وهذا محرم بإطلاقه!.
وأيضا فيما يتعلق بالحكم، جاء قوله تعالى صريحا: (انا انزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله) (18) ليفيد أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحكم باجتهاده فيما لم ينزل فيه وحي، ثم ينزل الوحي مخطئا أو مصوبا، فكذلك من يقوم مقامه إلاّ ما يتعلق بالوحي، ودليل ذلك من نص الآية الكريمة التي تلوناها، ووجه الاستدلال: ـ
إن (الإراءة) في الآية الكريمة من قوله تعالى (بما أراك الله) لا يمكن أن يصرف معناها إلى (الإراءة) البصرية أو الحسية من الرؤية بالعين، ذلك لأن (الأحكام الشرعية) التي يراد بها أمور معنوية معقولة وذهنية مجردة، لا ترى بالعين حسا، بل تدرك تعقلا كما لا يسوغ أن تفسر (الرؤية) في الآية الكريمة بمعنى (العلم) اليقيني؛ لأنه لا يوجد في الآية الكريمة إلاّ (مفعولان) بينما هي تحتاج إلى (ثلاثة مفاعيل) فلم يبق إلاّ أن تكون من (الاجتهاد).
هذا، وإذا كان في الآية الكريمة احتمالان:
أولهما: أن يفسر قوله تعالى: (بما أراك الله) أي: بما نص عليه في الكتاب العزيز.
ثانيهما: أن المراد من قوله تعالى: (بما أراك الله) من خلال اجتهادك ونظرك في أحكام الكتاب وأدلته، فإن في هذا ـ على الراجح ـ دليلا على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجتهد فيما لا نص فيه حتى ينزل عليه الوحي في حكم الواقعة المعروضة مصوبا أو مخطئا، بل وقد وقع ذلك فعلا.
على أنا لسنا الآن بصدد إقامة الأدلة على وقوع الاجتهاد منه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما قصدنا هنا إلى إثبات وجوب اجتهاد ورثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتهادا واجبا على (الكفاية) وأن يقوموا بهذه المهمة التي تكافئ التبليغ والبيان والحكم كلما أعوز الأمر ذلك؛ لقيامهم مقام النبوة، ولا سيما بعد انقطاع الوحي من باب أولى!! وهذا ما أشار اليه ابن العربي في تفسيره، إذ يقول (بما أراك الله) أي: بما أعلمك، وذلك بوحي أو نظر، أي بالاجتهاد!.
ولما كان (المجتهد الحق لا صلة له بالإيحاء الإلهي فتعين (النظر الاجتهادي) كما أعوز الأمر ذلك، لقيامه مقام النبوة في ذلك، ولأن (فطرة البيان القرآني) وطبيعته تقتضي ذلك؛ لمكان النصوص العامة والمطلقة فيه، وكذات السنة. هذا ونتيجة ذلك أن: (الجمود الفقهي أو التعصب المذهبي) يناكر ذلك قطعا؛ لأنه إطراح للنظر الاجتهادي المفروض، للأمرين الذين أشرنا إليهما.
الاجتهاد أمانة:
وأيضا: الاجتهاد هو (أمانة المجتهد الحق) وتأدية الأمانة العلمية والفكرية واجب شرعا، بل هي فرض تكافلي (كفائي) لا يجوز التخلي عنها، أو اغتيالها، بالتقليد أو الجمود، دون إعادة النظر في المنقولات الاجتهادية، لاختلاف الظروف، وتكاثر الوقائع، وإذا كان الاجتهاد (فريضة الدين) فهي أيضاً (أمانة العلم) ولا سيما إذا استدعى ذلك إقامة الدين على (اصوله الستفرة) على حد تعبير الامام الماوردي (19).
أضف إلى ذلك أن (الاجتهاد) ـ في جوهره ـ استجابة لواقع خصيصة (الإبداع الفكرية) المغروسة في طبيعة القعل نفسه فطرة، وإلا ما كان (التطور في الحياة الإنسانية).
غير أن ذلك (الإبداع) مقيد بأن يكون في إطار الشريعة (لا يخرج عنها، ولا يناقض روحها، أو يصادم (القطعيات) فيها، فكانت فريضة الاجتهاد في الإسلام ـ كما ترى ـ مطابقة لفطرة العقل، ولمقتضيات سنة التطور الماضية في هذا الوجود الإنساني!!.
على أن الإمام الشاطبي قد أشار إلى هذا (القيد) المهم في التجديد والإبداع التشريعي والفكري بما فطر عليه العقل الإنساني في أصل خلقته إذا يقول ما معنا:
¥