ثم إنه لما هاجر لم يقاتل أحداً من أهل المدينة ولم يأمر بقتل أحد من رؤوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر ولا من غيرهم، والآيات التي نزلت إذ ذاك إنما تأمر بقتال الذين أخرجوهم وقاتلوهم، ونحو ذلك، و ظاهر هذا أنه لم يُؤذن لهم إذ ذاك في ابتداء قتل الكافرين من أهل المدينة؛ فإن دوام إمساكهم عنهم يدل على استحبابه أو وجوبه وهو في الوجوب أظهر، لما ذكرنا؛ لأن الإمساك كان واجباً و المغير لحاله لم يشمل أهل المدينة فبقوا على الوجوب المتقدم مع فعله e قال موسى بن عقبة عن الزهري: كانت سيرة رسول الله e في [عدوِّهِ] قبل أن تنزل بَرَاءة يقاتل مَن قاتله، ومن كفَّ يده وعاهده كفَّ عنه، قال/ الله تعالى:) فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَم يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِم سَبِيلاً (، وكان القرآن يَنْسَخُ بعضه بعضاً، فإذا نزلت آية نسخت التي قبلها، وعُمِلَ بالتي أنزلت، وبلغت الأولى منتهى العمل بها، وكان ما قد عُمل بها قبل ذلك طاعَةً الله، حتى نزلت براءة، وإذا أمر بقتل هذه المرأة التي هجته ولم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين عُلم أن السبَّ موجبٌ للقتل وإن كان هناك ما يمنع القتال لولا السَببُ كالعهد والأنوثة ومنع قتل الكافر الممسك أو عدم إباحته.
وهذا وجه حسن دقيق؛ فإن الأصل أن دم الآدمي معصوم، لا يقتل إلا بالحق، وليس القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع ولا أوقات الشريعة الواحدة، كالقتل قَوَداً فإنه مما لا تختلف فيه الشرائع ولا العقول وكان دمُ الكافر في أول الإسلام معصوماً بالعصمَةِ الأصلية وبمنع الله المؤمنين من قتله، ودماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قَتَلَه موسى وكدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا، أو أحسن حالاً من ذلك، وقد عدّ موسى ذلك ذنباً في الدنيا والآخرة مع أن قتله كان خطأ شبه عمد، أو خطأ محضاً، ولم يكن عمداً محضاً.
فظاهر سيرة نبينا، وظاهر ما أذن له فيه أن حال أهل المدينة إذ ذاك ممن لم يسلم كانت كهذه الحال، فإذا قتل المرأة التي هجته من هؤلاء وليسوا عنده محاربين بحيث يجوز قتالهم مطلقاً كان قتل المرأة التي تهجوه من أهل الذمة بهذه المثابة وأوْلى؛ لأن هذه قد عاهدناها على أن لا تسبَّ، وعلى أن تكون صاغرةً، وتلك لم نعاهدها على شيء.
الدليل السابع قصة أبي عفك اليهودي
الدليل السابع: قصة أبي عَفَكٍ اليهودي، ذكره أهل المغازي والسير قال الواقدي: ثنا س عيد بن محمد عن عُمارة بن غَزِيّة، وحدثناه أبو مُصْعب إسماعيل بن مُصْعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت عن أشياخه، قالا: إن شيخاً من بني عمرو بن عَوْف يقال له: أبو عَفَكٍ ـ وكان شيخاً كبيراً قد بلغ عشرين ومائة سنة حين قدم النبيُّ e المدينة ـ يُحَرِّض على عَدَاوة النبي e، ولم يدخل في الإسلام، فلما خرج رسول الله e إلى بَدْرٍ ظفَّرهُ الله بما ظفره، فحسَدَهُ وبَغَى، فقال: (وذكر قصيدة/ تتضمن هجو النبي e وذمَّ من اتبعه، أعظم ما فيها قوله):
فيسلبهم أمْرَهُم رَاكبٌ حراماً حلالاً لشَتَّى معاً
قال سالم بن عُمَيْر: عليَّ نذر أن أقتل أبا عَفَكٍ أو أموتَ دونه، فأُمِهل، فطلب له غِرَّةً حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عَفَكٍ بالفِنَاء في الصيف في بني عمرو بن عَوْفٍ، فأقبل سالم بن عُمَيْر، فوضع السيف على كبدِهِ حتى خَشَّ في الفراش، وصاح عدو الله، فثاب إليه أناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه، وقالوا: مَن قتله؟ والله لو نعلم من قتله لقتلناه به".
وذكر محمد بن سعد أنه كان يهودياً، وقد ذكرنا أن يهود المدينة كلهم كانوا قد عاهدوا، ثم إنه لما هجا وأظهر الذم قتل.
متى قُتل أبو عفك؟
قال الواقدي عن [ابن رُقَيش]: "قتل أبو عفك في شوال على رأس عشرين شهراً"، وهذا قديم قبل قتل ابن الأشرف، وهذا فيه دلالة واضحة على أن المعاهد إذا أظهر السب ينتقض عهده، ويقتل غِيْلَة، لكن هو من رواية أهل المغازي، وهو يصلح أن يكون مؤيداً مؤكداً بلا تردد.
الدليل الثامن قصة أنس بن زنيم الديلي
الحديث الثامن: حديث أنس بن زُنَيْم ا لدِّيلي، وهو مشهور عند أهل السير، ذكره ابن أبي إسحاق والواقدي وغيرهما.
¥