فقال: "كِلاَكُمَا قَتَلَه" وقضى رسول الله e بسَلَبِهِ لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء.
والقصة مشهورةٌ في فرح النبي e بقتله، وسجوده شكراً، وقوله: "هَذَا فِرْعَونُ هَذِهِ الأُمَّة" هذا مع نهيه عن قتل أبي البَخْتَري ابن هشام مع كونه كافراً غير ذي عهد، لكفِّه عنه، وإحسانه بالسعي في نقض صحيفة الجور، ومع قوله: "لَوْ كَانَ/ المُطْعَمُ بنُ عَدْيٍّ حَيّاً، ثم كَلَّمَنِي في هَؤُلاَءِ النَّتّنى ـ يعني الأسرى ـ لأَطْلَقْتُهُم لَهُ" يكافئ المطعم بإجارته له بمكة، والمطعم كافر غير معاهد؛ فعلم أن مؤذي الرسول e يتعين إهلاكه والانتقام منه، بخلاف الكافِّ عنه، وإن اشتركا في الكفر كما كان يكافئ المحسن إليه بإحسانه وإن كان كافراً.
خزي أبي لهب
يؤيد ذلك أن أبا لهب كان له من القرابة ماله، فلما آذاه وتخلَّف عن بني هاشم في نصره، نزل القرآن فيه بما نزل من اللعنة والوعيد باسمه، [خزياً] لم يفعل بغيره من الكافرين، كما روي عن ابن عباس أنه قال: ما كان أبو لهب إلا من كفار قومه، حتى خرج منا حين تحالفت قريش علينا، فظاهرهم، فسبه الله، وبنو المطلب مع مساواتهم لعبدشمس ونوفل في النسب لما أعانوه ونصروه وهم كفار شكر الله ذلك لهم فجعلهم بعد الإسلام مع بني هاشم في سهم ذوي القربى، وأبو طالب لما أعانه ونصره وذب عنه خُفف عنه العذاب، فهو من أخف أهل النار عذاباً.
وقد رُوى أن أبا لهب سُقي في نقرة الإبهام لعتقه ثُوَيْبَة إذ بشرته بولادته.
سنة الله فيمن لا يقدر المسلمون على الانتقام منه
ومن سنة الله أن من لم يمكن المؤمنون أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله؛ فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكاتب المفتَري، وكما قال سبحانه:) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِيَن * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهزِئِين (.
والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين معروفة، قد ذكرها أهل السير والتفسير، وهم على ما قيل نفر من رؤوس قريش: منهم الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، والأسودان بن المطلب وابن عبد يغوث، والحارث بن قيس.
وقد كتب النبي e إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يُسْلم، لكن قيصر أكرم كتاب رسول الله e، وأكرم رسوله، فَثَبَتَ ملكه، فيقال: إن الملك باقٍ في ذريته إلى اليوم، و كسرى مَزَّقَ كتاب رسول الله e، واستهزأ/ برسول الله e، فقتله الله بعد قليل، ومزق ملكه كل ممزق، و لم يبق للأكاسرة ملك، وهذا ـ والله أعلم ـ تحقيق قوله تعالى:) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (؛ فكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله تعالى يقطع دابره، ويمحق عينه وأثره، وقد قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل، أو في عقبة بن أبي معيط أو في كعب بن الأشرف، وقد رأيت صنيع الله بهم.
ومن الكلام السائر: "لحوم العلماء مسمومة" فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام.
و في "الصحيح" عن النبي e قال: "يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَ ْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ".
فكيف بمن عادى الأنبياء؟ ومن حارب الله حُرِبَ، وإذا استقريت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أهلكوا حين آذوا الأنبياء [وقابلوهم] بقبيح القول أو العمل، وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذلة، وباؤوا بغضب من الله، ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق مضموماً إلى كفرهم، كما ذكر الله ذلك في كتابه، ولعلك لا تجد أحداً آذى نبياً من الأنبياء ثم لم يتب إلا ولابد أن يصيبه الله بقارعةٍ، وقد ذكرنا ما جرَّبه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرضوا لسب رسول الله e، وبلغنا [مثل] ذلك في وقائع متعددة، وهذا باب واسع لا يحاط به، ولم نقصد قصده هنا، وإنما قصدنا بيان الحكم الشرعي.
الله تعالى يحمي رسوله ويصرف عنه أذى الناس
وكان سبحانه يَحْميه ويَصْرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ؛ ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله e: " أَلاَ تَرَونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ مُذَمَّماً وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّماً، وَأَنَا مُحَمَّدٌ"، فنزه الله اسمه ونعته عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مذمم، وإن كان المؤذي إنما قصد عينه.
¥