قلنا: إذا جاز استرقاقه جاز إقراره بالجزية إذا لم يكن المانع حقاً لله؛ لأنه ليس في ذلك إلا فوات ملك رقبته، وقد يرى الإمام أن في إقراره بالجزية أو في المن عليه والمفاداة به مصلحة أكثر من ذلك، بخلاف المرتد؛ فإنه لا سبيل إلى استبقائه، وبخلاف الوثني إذا جوزنا استرقاقه؛ فإن المانع من إقراره بالجزية حق لله وهو دينه، وناقض العهد دينه قبل النقض وبعده سواء، ونقضه إنما يعود ضرره على من يحاربه من المسلمين، فكان الرأي فيه إلى الأمير.
الاعتراض الرابع
هل يتعين قتل ناقض العهد؟
فإن قيل: فهلا حكيتم خلافاً أنه يتعين قتل هذا الناقض للعهد كما يتعين قتل غيره من الناقضين كما سيأتي، وقد قال أبو الخطاب: "إذا حكمنا بنقض عهد الذمي، فظاهر كلام الإمام أحمد أنه يقتل في الحال، قال: وقال شيخنا: يخير الإمام فيه بين أربعة أشياء، فأطلق الكلام فيمن نقض العهد مطلقاً، وتبعه طائفة على الإطلاق، ومَن قَيَّده قَيَّده بأن ينقضه بما فيه ضرر على المسلمين، مثل قتالهم ونحوه، فأما [إن] نقضه بمجرد اللحاق بدار الحرب فهو كالأسير"، ويؤيد هذا ما رواه عبدالله بن أحمد، قال: سألت أبي عن قوم نصارى نقضوا العهد وقاتلوا المسلمين، قال: أرى أن لا تقتل الذرية ولا يسبون، ولكن تقتل رجالهم.
قلت لأبي: فإن وُلد لرجالهم في دار الحرب؟ قال: أرى أن يسبوا أولئك ويقتلوا.
قلت لأبي: فإن هرب من الذرية إلى دار الحرب أحد فسباهم المسلمون، ترى لهم أن يسترقوا؟ قال: الذرية لا يسترقون ولا يقتلون؛ لأنهم لم ينقضوا هم، إنما نقض العهد رجالهم، وما ذنب هؤلاء؟.
فقد أمر رحمه الله بقتل المقاتلة من هؤلاء إما لمجرد النقض أو للنقض والقتال.
الجواب عن الاعتراض الرابع
قلنا: قد ذكرنا فيما مضى نص أحمد على أن من نقض العهد وقاتل المسلمين فإنه يجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام، وإذا أُسر حَكَم فيه الإمام بما رأى.
ونص رحمه الله/ فيمن لحق بدار الحرب على أنه يسترق في رواية، وعلى أن يعاد إلى ذمته في رواية أخرى، فلم يجز أن يقال: ظاهر كلامه في هذه الصورة يدل على وجوب قتله، مع تصريحه بخلاف ذلك، كيف والذين قالوا ذلك إنما أخذوا من كلامه في مسائل شتى ليست هذه الصورة منها؟ على أن أبا الخطاب وغيره لم يذكروا هذه الصورة ولم تدخل في كلامهم أعني صورة اللحاق بدار الحرب، وإنما ذكروا من نقض العهد بأن ترك ما يجب عليه في العهد، أو فعل ما ينتقض به عهده وهو في قبضة المسلمين.
وذكروا أن ظاهر كلام الإمام أحمد تعين قتله، وهو صحيح، فمَن فَهِم من كلامهم عموم الحكم في كل من انتقض عهده فمن فَهمه أُتيَ لا من كلامهم، ومن ذكر اللحاق بدار الحرب وقتال المسلمين والامتناع من أداء الجزية، وغير ذلك في النواقض، فإنه احتاج أن يفرق بين [اللحاق] بدار الحرب وبين غيره، كما ذكرناه من نصوص الإمام أحمد وغيره من الأئمة على الناقض الممتنع.
والفرق بينهما أنه لم يوجد منه إلا اللحاق بدار الحرب فإنه لم يجن جناية فيها ضرر على المسلمين حتى يعاقب عليها بخصوصها، وإنما ترك العهد الذي بيننا وبينه، فصار ككافر لا عهد له كما سيأتي إن شاء الله تعالى تقريره.
من لحق بدار العهد كالحربي
ويجب أن يعلم أن من لحق بدار الحرب صار حربياً، فما وجد منه من الجنايات بعد ذلك فهي كجنايات الحربي لا يؤخذ بها إن أسلم أو عاد إلى الذمة، ولذلك قال الخِرَقي: "ومن هرب مِن ذمتنا إلى دار الحرب ناقضاً للعهد عاد حربياً"، وكذلك أيضاً إذا امتنعوا بدار الإسلام من الجزية أو الحكم ولهم شوكة ومنعة قاتلوا بها عن أنفسهم، فإنهم قد قاتلوا بعد أن انتقض عهدهم، وصار حكمهم حكم المحاربين، فلا يتعين قتل من استرق منهم، بل حكمه إلى الإمام ويجوز استرقاقه كما نص الإمام أحمد على هذه الصورة بعينها؛ لأن المكان الذي تحيزوا فيه وامتنعوا بمنزلة دار الحرب، ولم يجنوا على المسلمين جناية ابتداؤوا بها للمسلمين، وإنما قاتلوا عن أنفسهم بعد أن تحيزوا وامتنعوا وعلم أنهم محاربون، فمن قال من أصحابنا: إن من قاتل المسلمين يتعين قتله، ومن لحق بدار الحرب خُيِّر الإمام فيه، فإنما ذاك إذا قاتلهم/ ابتداء قبل أن يظهر نقض العهد ويظهر الامتناع بأن يعين أهل الحرب على قتال المسلمين ونحو ذلك، فأما إن قاتل بعد أن صار في شوكة ومنعة يمتنع بها عن أداء الجزية فإنه يصير
¥