الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه، من نصوص إمامه، وتفريع المجتهدين في مذهبه.
وما لا يجده منقولاً إن وجد في المنقول معناه، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنَّه لا فرق بينهما، جاز إلحاقه به والفتوى به، وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه، ومثل هذا يقع نادراً في حق المذكور، إذ يبعد كما قال إمام الحرمين: أن تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب، ولا هي في معنى المنصوص، ولا مندرجة تحت ضابط [2].
وشرطه كونه فقيه النفس ذا حظ وافر من الفقه.
قال أبو عمرو: وأن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة والتي قبلها بكون المعظم على ذهنه، ويتمكن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب.
فصل
[أصناف المفتين ومراتبهم]
هذه أصناف المفتين وهي خمسةٌ، وكلُّ صنف منها يُشترط فيه حفظ المذهب وفقه النفس، فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم.
ولقد قطع إمام الحرمين وغيره بأن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحلُّ له الفتوى بمجرد ذلك، ولو وقعت له واقعة لزمه أن يسأل عنها، ويلتحق به المتصرف النظَّار البحاث، من أئمة الخلاف وفحول المناظرين ; لأنه ليس أهلاً لإدراك حكم الواقعة استقلالاً، لقصور آلته، ولا من مذهب إمام، لعدم حفظه له على الوجه المعتبر.
فإن قيل: من حفظ كتاباً أو أكثر في المذهب وهو قاصر، لم يتصف بصفة أحد ممن سبق، ولم يجد العامي في بلده غيره، هل له الرجوع إلى قوله؟
فالجواب: إن كان في غير بلده مُفتٍ يجد السبيل إليه وجب التوصل إليه بحسب إمكانه، فإن تعذر ذكر مسألته للقاصر، فإن وجدها بعينها في كتاب موثوق بصحته وهو ممن يُقبل خبره نقل له حكمه بنصه، وكان العامي فيها مقلِّداً صاحب المذهب.
قال أبو عمرو: وهذا وجدتُّه في ضمن كلام بعضهم، والدليل يعضده، وإن لم يجدها مسطورة بعينها لم يقسها على مسطور عنده، وإن اعتقده من قياس لا فارق، فإنه قد يتوهم ذلك في غير موضعه.
فإن قيل: هل لمقلِّدٍ أن يفتي بما هو مقلد فيه؟
قلنا: قطع أبو عبد الله الحَلِيمي وأبو محمد الجويني وأبو المحاسن الرّوياني وغيرهم بتحريمه، وقال القفال المروزي: يجوز.
قال أبو عمرو: قولُ من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه، بل يضيفه إلى إمامه الذي قلَّده، فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة، لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم، وسبيلهم أن يقولوا مثلاً: مذهب الشافعي كذا أو نحو هذا، ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح به، ولا بأس بذلك.
وذكر صاحب الحاوي في العامي إذا عرف حكم حادثة بناء على دليلها ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده ; لأنه وصل إلى علمه. كوصول العالم.
والثاني: يجوز إن كان دليلها كتاباً أو سنة، ولا يجوز إن كان غيرهما.
والثالث: لا يجوز مطلقاً، وهو الأصح والله أعلم.
فصل
في أحكام المفتين
فيه مسائل:
إحداها: الإفتاء فرض كفاية، فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعيَّن عليه الجواب، فإن كان فيها غيره وحضرا فالجواب في حقهما فرض كفاية، وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحهما: لا يتعين لما سبق عن ابن أبي ليلى، والثاني: يتعين، وهما كالوجهين في مثله في الشهادة. ولو سأل عامي عمَّا لم يقع لم يجب جوابه.
الثانية: إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه، ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل به، وكذا إن نكح بفتواه واستمر على نكاح بفتواه ثم رجع، لزمه مفارقتها كما لو تغير اجتهاد من قلَّده في القبلة في أثناء صلاته، وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلاً قاطعاً لزم المستفتي نقض عمله ذلك، وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه ; لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو، واتفقوا عليه، ولا أعلم خلافه، وما ذكره الغزالي والرازي ليس فيه تصريح بخلافه.
قال أبو عمرو: وإذا كان يُفتي على مذهب إمامٍ، فرجع لكونه بان له قطعاً مخالفة نص مذهب إمامه، وجب نقضه وإن كان في محل الاجتهاد ; لأنَّ نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المجتهد المستقل.
¥