تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أحدهما: أن لا يكون مقلداً لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله، لاتصافه بصفة المستقل؛ وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد.

وادعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا، فحَكَى عن أصحاب مالك -رحمه الله- وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليداً لهم، ثم قال: والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا: وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليداً له، بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه، فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي وذكر أبو علي السنجي -بكسر السين المهملة- نحو هذا فقال: اتبعنا الشافعي دون غيره، ; لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه.

قلتُ: هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله: مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره.

قال أبو عَمرو: دعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقاً لا يستقيم، ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم، وحَكَى بعض أصحاب الأصول مِنَّا أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهدٌ مستقل.

ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.

الحالة الثانية: أن يكون مجتهدًا مقيَّداً في مذهب إمامه، مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، وشرطه: كونه عالماً بالفقه وأصوله، وأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط، قيماً بإلحاق ما ليس منصوصاً عليه لإمامه بأصوله، ولا يعرى عن شوب تقليد له ; لإخلاله ببعض أدوات المستقل، بأن يُخلَّ بالحديث أو العربية، وكثيراً ما أخل بهما المقيَّد، ثم يتخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها كفعل المستقل بنصوص. الشرع، وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه، ولا يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص، وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه، وعليها كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم.

والعامل بفتوى هذا مقلِّدٌ لإمامه لا له.

ثم ظاهر كلام الأصحاب أنَّ من هذا حاله لا يتأدَّى به فرض الكفاية.

قال أبو عمرو: ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى، إن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى ; لأنَّه قام مقام إمامه المستقل تفريعاً على الصحيح، وهو جواز تقليد الميت.

ثم قد يستقل المقيد في مسألة أو باب خاص كما تقدم، وله أن يفتي فيما لا نصَّ فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل، وإليه مفزع المفتين من مُدَدٍ طويلة، ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لا له.

هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي، وما أكثر فوائده [1]!!

قال الشيخ أبو عمرو: وينبغي أن يخرج هذا على خلافٌ حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره، أن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي؟ والأصح أنه لا ينسب إليه.

ثم تارة يخرِّج من نص معين لإمامه وتارة لا يجده، فيخرّج على أصوله بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه فيفتي بموجبه، فإن نصَّ إمامه على شيء ونص في مسألة تشبهها على خلافه، فخرج من أحدهما إلى الآخر سمي قولاً مخرجاً، وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصه فرقاً، فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما، ويختلفون كثيراً في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق.

قلتُ: وأكثر ذلك يمكن فيه الفرقُ، وقد ذكروه.

الحالة الثالثة: أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنه فقيه النفس، حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصوّر، ويحرّر، ويقرّر، ويمهد، ويزيف، ويرجح، لكنَّه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب، أو الارتياض في الاستنباط، أو معرفة الأصول ونحوها من أدواتهم.

وهذه صفةُ كثيرٍ من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه، وصنَّفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم، ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج.

وأما فتاويهم فكانوا يتبسطون فيها تبسط أولئك أو قريباً منه، ويقيسون غير المنقول عليه، غير مقتصرين على القياس الجلي.

ومنهم من جُمِعَت فتاويه، ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغَ فتاوى أصحاب الوجوه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير