وقال أبو المظفر السمعاني - رحمه الله-: إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه، قال: ويجوز أن يقال إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به. وقيل: يلزمه إذا وقع في نفسه صحته، قال السمعاني: وهذا أولى الأوجه.
قال الشيخ أبو عمرو: لم أجد هذا لغيره، وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه إذا أفتاه بما هو مختلف فيه خيره بين أن يقبل منه أو من غيره، ثم اختار هو أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتيا من اختاره باجتهاده.
قال الشيخ: والذي تقتضيه القواعد أن نفصل فنقول: إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفت آخر لزمه الأخذ بفتياه، ولا يتوقف ذلك على التزامه لا بالأخذ في العمل به ولا بغيره، ولا يتوقف أيضا على سكون نفسه إلى صحته.
وإن وجد مفت آخر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه ما أفتاه به، بناء على الأصح في تعينه كما سبق، وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده، ولا يعلم اتفاقهما في الفتوى، فإن وجد الاتفاق أو حكم به عليه حاكم لزمه حينئذ.
السادسة: إذا استفتي فأفتى ثم حدثت تلك الواقعة له مرةً أخرى، فهل يلزمه تجديد السؤال؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه; لاحتمال تغير رأي المفتي، والثاني: لا يلزمه وهو الأصح ; لأنه قد عرف الحكم الأول، والأصل استمرار المفتى عليه.
وخصص صاحب الشامل الخلاف بما إذا قلد حياً وقطع فيما إذا كان ذلك خبرا عن ميت، بأنه لا يلزمه، والصحيح أنه لا يختص، فإن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه.
السابعة: أن يستفتي بنفسه، وله أن يبعث ثقةً يعتمد خبره ليستفتي له، وله الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره من يَثِقُ بقوله أنه خطه، أو كان يعرف خطه ولم يتشكك في كون ذلك الجواب بخطه.
الثامنة: ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي ويبجله في خطابه وجوابه ونحو ذلك.
ولا يومئ بيده في وجهه، ولا يقل له ما تحفظ في كذا؟ أو ما مذهب إمامك أو الشافعي في كذا؟
ولا يقل إذا أجابه: هكذا قلتُ أنا، أو كذا وقع لي، ولا يقل: أفتاني فلان أو غيرك بكذا، ولا يقل: إن كان جوابك موافقاً لمن كتب فاكتب وإلا فلا تكتب.
ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على حالة ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب.
وينبغي أن يبدأ بالأسن الأعلم من المفتين، وبالأولى فالأولى إن أراد جمع الأجوبة في رقعة، فإن أراد إفراد الأجوبة في رقاع بدأ بمن شاء، وتكون رقعة الاستفتاء واسعة، ليتمكن المفتي من استيفاء الجواب واضحاً، لا مختصراً مضراً بالمستفتي.
ولا يدع الدعاء في رقعة لمن يستفتيه.
قال الصيمري: فإن اقتصر على فتوى واحد قال: ما تقول رحمك الله؟ أو رضي الله عنك أو وفقك الله، وسددك ورضي عن والديك؟، ولا يحسن أن يقول: رحمنا الله وإياك.
وإن أراد جواب جماعة قال: ما تقولون رضي الله عنكم؟ أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى؟
ويدفع الرقعة إلى المفتي منشورة، ويأخذها منشورة فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها.
التاسعة: ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يحسن السؤال، ويضعه على الغرض مع إبانة الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف.
قال الصيمري: يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم، وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي إلا في رقعة كتبها رجل بعينه من أهل العلم ببلده.
وينبغي للعامي أن لا يطالب المفتي بالدليل، ولا يقل: لم قلتَ؟ فإن أحبَّ أن تسكن نفسه لسماع الحجة طلبها في مجلس آخر، أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة.
وقال السمعاني: لا يمنع من طلب الدليل، وأنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعاً به، ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعاً به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر فهم العامي عنه، والصواب الأول.
العاشرة: إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتياً ولا أحداً ينقل له حكم واقعته لا في بلده ولا غيره قال الشيخ: هذه مسألةُ فَترة الشريعة الأصوليةُ [4]، وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع، والصحيح في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد، وأنه لا يثبت في حقه حكم لا إيجاب ولا تحريم ولا غير ذلك، فلا يؤاخذ إذن صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها، والله أعلم.
***************************
تم ما في شرح المهذب من كلام عن الفتوى وشروطها، وبقية الكلام في هذا الباب خاص بمذهب الإمام الشافعي، فلينظره طلاب العلم الشافعية.
والله تعالى الموفق لكل خير.
والحمد لله رب العالمين.
[1] سماه: "غياث الأمم في التياث الظلم"، مطبوع مشهور، نفيس في بابه، لكنه صعب العبارة على من لم يرتض بكلام الأصوليين.
[2] وإن أشكلت كثيرٌ من مسائل العصر، مما لم يكن في سابق العهد، لكن قواعد الأصول وضوابط الفقه تلحق بها، وما أتي معاصرونا إلا من ضعفهم في علوم الأولين، فيظنون أن أكثر المسائل لا وجود لنظائرها فيما سبق من علوم الأئمة، والله أعلم.
[3] لكل من الأئمة الأربعة مزايا تشير إلى فضل تقليده، ولا يقتصر ذلك على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، بل الأئمة المتبوعون أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل على خير وهدى، ومن قلد أحدهم في أحكام الدين، فهو على خير وهدى باتفاق المسلمين، والله أعلم.
[4] أي المسألة المعروفة في أصول الفقه: هل تندرس الشريعة الإسلامية، يعني: هل يأتي على الناس زمان لا يكون فيه مفت للأمة، ولا عالم؟.