لا يخفى أن هناك فرقا بين إنسان جعل التأويل الباطل منهجا وطريقة يناضل ويجادل عليه، وبين عالم أخطا خطأ وزل زلة؛ فالأول جعل التأويل الفاسد عقيدة يسير عليها، ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهره، ولم يرجع إلى فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين كي يعينو على فهم النصوص، ولم يتحر الصواب في الوصول إلى الحق، إنما لجأ في تحرير المسائل إلى فهوم علماء الكلام والضلال؛ كالجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، والمريسي، والرازي، وجهمي العصر الكوثري؛ فمثل هذا يلحق بأحد الطوائف المبتدعة أو المارقة، والثاني لا يرى التأويل الباطل ولا التحريف مطلقا، ويتوخى الحق، ويستعين على فهم الكتاب والسنة بعلوم السلف وفهومهم، ولكنه زل زلة، فأول آية أو حديثا؛ لشبهة قامت عنده: إما لضعف الحديث عنده، وإما لعدم فهمه للمسألة على وجهها، وإما لغير ذلك؛ ففي هذه الحالة خطؤه مغفور له، ولكن يجتنب خطؤه ويبين، ولا يتابع عليه؛ لأنه ليس كل من أخطأ يكون كافرا أو مبتدعا؛ فقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان.
قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) في ترجمة ابن خزيمة (14/ 376): ((ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لإتباع الحق أهدرناه وبدعناه؛ لقل من يسلم من الأئمة معنا)).
وهذا ظاهر، وكلام علماء السلف يدل على ذلك.
فمن سوّى بين الأول والثاني؛ فقد جار في حكمه، ولم يعدل في قوله؛ فكيف يسوى بين رجلين: أحدهما: تحرى الحق والصواب، واجتهد في ذلك، مع حسن قصده، ولم يصبه؛ لشبهة قامت عنده. والآخر: نظر في كلام المتكلمين واتبعه، وأخذ يجادل عن الباطل، ونبذ نصوص الكتاب والسنة وراء ظهره؛ فالمعروف عنده الرد على علماء السلف وتسفيههم والطعن فيهم، وبيّن له الحق والصواب ولم يرجع، وأنكر أمورا معلومة من الدين بالضرورة، وكثر عثاره، وطال شقاقه وعناده، وكثر تحريفه للنصوص وجداله، ويسب علماء السلف وخيار هذه الأمة، ويسمي التوحيد شركا والشرك توحيدا؟!
فمن سوى بين من كانت هذه حاله وبين الأول؛ فقد أبعد النجعة، وقفا ما لا علم له به، وخالف الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها.
ـ[أبو عمر الدوسري]ــــــــ[11 - 03 - 06, 03:12 م]ـ
فصل
الأصل في الرد أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم؛ لأن الظلم مما يبغضه الله، وهو من صفات أهل الأهواء، الذين يلجؤون في كتبهم إلى الكذب والظلم لترويج باطلهم.
وكثيرا ما ينهج السقاف في تعليقاته على ((دفع شبه التشبيه))، وفي كثير من كتبه، منهجا وبيا من الكذب على علماء السلف وتقويلهم ما لم يقولوا، وحمل كلامهم على خلاف الحق؛ كي يلج لجة التبديع والتكفير؛ كما ستقف عليه إن شاء الله في هذا الكتاب، وهذه سجية جهمي العصر الكوثري في كثير من كتبه؛ فإنه لا يتحرى الصدق في النقل، وكثيرا ما يلجأ إلى السب والشتم والوقوع في أعراض علماء الأمة، وهذه الصفة ليست خاصة في الكوثري وتلاميذه، بل هي عامة في كثير من أهل الأهواء، الذي ينتصرون لبدعهم وضلالهم، ولا يعدلون في قولهم وفعلهم.
والعدل في القول والفعل من صفات المؤمنين، وهو مما يحبه الله ويأمر به: قال تعالى:
? وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ ? [الأنعام: 152] وقال تعالى:? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ? [الآية أ النحل: 90]؛ فالمؤمن لا يكذب ولا يظلم، وإن كذب عليه؛ لأن الكذب والبهت من صفات المنافقين.
وما يلاقيه أهل السنة من كثير من أهل البدع من الظلم والكذب أمر مشهور، قد دونه أهل العلم في كتبهم؛ فإن كثيرا من أهل البدع أهل ظلم وبغي وجور، لا ينفقون ضلالهم إلا بالكذب، وليس عندهم من الحجة والبرهان سوى السب والشتم، أما أهل السنة؛ فلا يكذبون على أهل البدع، وإن كذبوا عليهم؛ لعلمهم أن الكذب مذموم عند الله وعند رسوله؛ فهم يحبون العدل، ويأمرون به، ويبغضون الظلم، وينهون عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((المنهاج)) (5/ 127): ((والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم)).
وقال: ((العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو حبوب في النفوس، مركوز حبه في القلوب، تحبه القلوب وتحمده، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه، والله تعالى أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط، قال الله تعالى: ? لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ? [الحديد: 25])).
وقال رحمه الله (ص 157): ((وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا؛ فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا. وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض، والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يكفر؛ فسق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق؛ كما وصف الله به المسلمين بقوله: ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ? [آل عمران: 110]، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس ... )).
¥