وحمل صفات الله تعالى على الظاهر ليس تشبيها كما يظنه من تأثر بآراء المتكلمين؛ فإن الله جل وعلا ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? [الشورى: 11]؛ فنفى الله جل وعلا عن نفسه مماثلة المخلوقات، وأثبت لنفسه الصفات، وليس بعد هذا البيان بيان لمن عقل أمر الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في ((الفتاوى)) (33/ 175): (( ... الظاهر من فطر المسلمين قبل الأهواء وتشتت الآراء، وهو الظاهر الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى؛ كما أن هذا هو الظاهر في سائر ما يطلق عليه سبحانه من أسمائه وصفاته؛ كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والمحبة، والغضب، والرضى؛ كقوله: ? مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ? [ص: 75]، و ((ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة)) ... إلى غير ذلك؛ فإن ظاهر هذه الألفاظ إذا أطلقت علينا أن تكون أعراضا أو أجساما؛ لأن ذواتنا كذلك، وليس ظاهرها إذا أطلقت على الله سبحانه وتعالى إلا ما يليق بجلاله ويناسب نفسه الكريمة؛ فكما أن لفظ (ذات) و (وجود) و (حقيقة) تطلق على الله وعلى عباده، وهو على ظاهره في الإطلاقين، مع القطع بأنه ليس ظاهره في حق الله مساويا لظاهره في حقنا ولا مشاركا له فيما يوجب نقصا أو حدوثا، سواء جعلت هذه الألفاظ متواطئة أو مشتركة أو مشككة ... )).
وقول ابن الجوزي: ((قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة؛ مثل: يد على نعمة): يقال: قد أصابوا في ذلك؛ فإن حمل اليد على النعمة لا يصح البتة، بل هو من أعظم الإلحاد والتحريف.
فهل يصح أن يقال في قوله تعالى:? مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ? [ص:75]؛ أي: نعمتي؟! فهذا من أعظم الباطل وأقبح التحريف؛ فإن نعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى؛ كما قال تعالى:? وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا? [إبراهيم: 34].
ومن فسر قوله تعالى:? لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?؛ بمعنى القدرة؛ فتحريفه أعظم من سابقه؛ فإن الله جل وعلا خلق جميع الخلق بقدرته؛ فلا يكون لآدم مزية على غيره، وهذا واضح جلي لمن لم تجتله الشياطين عن فطرته.
وسيأتي إن شاء الله زيادة بيان وإيضاح لهذه المسألة، وإثبات اليدين لله تعالى حقيقة؛ فلا يصح حملها على القوة ولا على النعمة، وصرف الكلام عن ظاهره بدون دليل تحكم.
والأدلة على إثبات اليدين لله تعالى- وكلتا يدي ربي يمين- كثيرة جدا من الكتاب والسنة:
قال تعالى: ? وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ... ? [الزمر: 67].
ولئن حرف أهل البدع الآية المتقدمة من إثبات اليدين لله تعالى، وحملوها على معنى القدرة أو النعمة مع بطلانه لغة وشرعا؛ فهل يصح حمل هذه الآية على النعمة أو القدرة؟! هذا ما لا سبيل لهم إليه؛ فلا يصح أن يقال: ? وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ?؛ أي: بقدرته أو نعمته؛ فإن القدرة لا يمين لها، كذلك النعمة!!
يوضح ذلك ويبينه ما رواه مسلم في ((صحيحه)) (1827) عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن جل وعلا، وكلتا يديه يمين ... ))؛ فلا يصح أن يقال: وكلتا قدرتيه يمين، أو نعمتيه!!
فإذا بطل هذا القول؛ وجب الانقياد والإذعان لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يصف الله أحد من البشر أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصف ربه كما وصف الله به نفسه؛ بأن له يدين، وهاتان اليدان حقيقيتان؛ فيجب إثباتهما لله تعالى؛ إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل؛ فالله جل وعلا: ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? [الشورى: 11].
ثم إن ابن الجوزي أراد أيضا حمل مجيء وإتيان الرب جل وعلا على معنى (بر) و (لطف)، وهذا خلاف مذهب السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ فإن السلف يثبتون لله تعالى الإتيان والمجيء على ما يليق بالله جل وعلا؛ قال تعالى: ? وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا? [الفجر: 22]، ومن قال في هذه الآية: جاء بره ولطفه؛ فقد ألحد في آيات الله تعالى، وحرف الكلم عن مواضعه؛ كتحريف اليهود.
¥