لأحدثنا كل يوم من الخطأ يتراءى أن القرائن والأمارات تقتضي وقوع الأمر ثم لا يقع، وتقتضي أن لا يقع، ثم يقع، فما بالك بالأمور التي مضت عليها قرون ولا سيما إذا لم يتهيأ للناظر تتبع مايمكن معرفته من القرائن والأمارات ولم يلاحظ الموانع، فأما إذا كان له هوى فالأمر أوضح. والناظر إنما يشتد حرصه على الإصابة في القضايا العصرية لأنه يخشى انكشاف الحال فيها على خلاف مازعم، فأما التي مضت عليها قرون والباحثون عنها قليل فإنه لا يبالي، اللهم إلا أن يكون متديناً محترساً من الهوى، على أن الاستاذ لم يخلص لطريقة الكتاب بل كثيراً مايرمي بالقرائن القوية والدلالات الواضحة خلف ظهره ويحاول اصطناع خلافها وسد الفراغ بالتهويل والمغالطة كما سترى أمثلة من ذلك في هذا الكتاب.
وأسأل الله لي وله التوفيق.
القسم الأول في القواعد
1 ـ رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي
تقدم في الفصل الثالث قول مالك " لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ عن معلن بالسفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ عن كذاب يكذب في حديث الناس إذا جرب عليه ذلك وإن كان لايتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. ".
أسنده الخطيب في (الكفاية) ص116 إلى مالك كما تقدم ثم قال ص117 " باب في أن الكاذب في غير حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترد روايته ـ قد ذكرنا آنفاً قول مالك بن أنس. ويجب أن يُقبل حديثه إذا ثبت توبته " ولم يذكر مايخالف مقالة مالك. وأسند ص23 ـ 24 إلى الشافعي " .. ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه معروفاً بالصدق في حديثه .. " وهذه العبارة ثابتة في رسالة الشافعي.
وفي " لسان الميزان " ج1 ص469:
" قال ابن أبي حاتم عن أبيه أن يحيى بن المغيرة سأل جريراً (ابن عبد الحميد) عن أخيه أنس فقال: قد سمع من هشام بن عروة ولكنه يكذب في حديث الناس فلا يكتب عنه " وفي (النخبة وشرحها):
" (ثم الطعن) يكون بعشرة أشياء .. ترتيبها على الأشد فالأشد في موجب الرد على سبيل التدلي .. ) (إما أن يكون بكذب الراوي) في الحديث النبوي ... متعمداً لذلك (أو تهمته بذلك) بأن لا يروى ذلك الحديث إلا من جهته ويكون مخالفاً للقواعد المعلومة، وكذا من عرف بالكذب في كلامه وان لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي، وهو دون الأول. (أو فحش غلطه) أي كثرته (أو غفلته) عن الإتقان (أو فسقه) .. (أو وهمه) بأن يروي على سبيل التوهم (أو مخالفته) أي الثقات (أو جهالته) ... (أو بدعته) ... (أو سوء حفظه) .. ".
هذه النقول تعطي أن الكذب في الكلام ترد به الرواية مطلقاً وذلك يشمل الكذبة الواحدة التي لا يترتب عليها ضرر ولا مفسدة وقد ساق صاحب (الزواجر) الأحاديث في التشديد في الكذب ثم قال ج2 ص 169 " عد هذا هو ماصرحوا به قيل لكنه مع الضرر ليس كبيرة مطلقاً بل قد يكون كبيرة كالكذب على الأنبياء وقد لا يكون ـ انتهى ـ وفيه نظر بل الذي يتجه انه حيث اشتد ضرره بأن لا يحتمل عادة كان كبيرة بل صرح الروياني في (البحر) بأنه كبيرة وان لم يضر فقال: من كذب قصداً ردت شهادته وإن لم يضر بغيره لأن الكذب حرام بكل حال.
وروى فيه حديثاً. وظاهر الأحاديث السابقة أو صريحها يوافقه وكأن وجه عدو لهم عن ذلك ابتلاء أكثر الناس به فكان كالغيبة على مامر فيها عند جماعة ".
أقول: لا يلزم من التسامح في الشاهد أن يتسامح في الراوي لوجوه:
الأول: أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة فإن الشهادة تترتب على خصومة ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إ ليه في حديث الناس ويتعرض للجرح فوراً، فمن جربت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر ف خوف أن يجره تساهله في ذلك إلى التساهل في الرواية أشد من الخوف أن يجره إلى شهادة الزور.
الثاني: أن عماد الرواية الصدق ومعقول أن يشدد فيها فيما يتعلق به مالم يشدد في الشهادة وقد خفف في الرواية في غير ذلك مالم يخفف في الشهادة، تقوم الحجة بخبر الثقة ولو واحداً أو عبد أو إمرأة أو جالب منفعة إلى نفسه أو أصله أو فرعه أو ضرر على عدوه كما يأتي بخلاف الشهادة، فلا يليق بعد ذلك أن يخفف في الرواية فيما يمس عمادها.
¥