ولاريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة اسقاط العدالة لم تقبل لصاحبها شهادة ولا رواية البتة سواء أكانت دنيوية أم مذهبية أم دينية كمن يسرف في الحنق على الكفار فيتعدى على أهل الذمة، والأمان بالنهب والقتل ونحو ذلك، بل قد يكفر.
فقد اتضح بما تقدم الجواب عن بعض مايمكن التشبث به في رد رواية العدل، وبقى حكاية عن شريك ربما يؤخذ منها أنه قد يقبل شهادة بعض العدول في القليل ولا يقبلها في الكثير، وفرع للشافعي قد يتوهم فيه نحو ذلك، ومايقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع، وماقاله بعضهم في جرح المحدث لمن هو ساخط عليه.
فأما الحكاية عن شريك فمنقطعة، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه فان القاضي قد لا يكون خبيراً بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقظهما وإنما عدلهما غيره فإذا كان المال كثيراً جداً بقى في نفسه ريبة وقد بين أهل العلم أن مثل هذا إنما يقتضي التروي والتثبت فإذا تروى وبقيت الحال كما كانت وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة ويعر عما في نفسه. وأما الفرع المذكور عن الشافعي فليس من ذاك القبيل، وإ نما هو من باب الاحتياط للتعديل، ومع ذلك فقد رواه إمام الحرمين وقال: إن أكثر الأئمة على خلافه.
وأما رواية المبتدع وجرح المحدث لمن هو ساخط عليه فأفرد كلاً منهما بقاعدة.
3 ـ رواية المبتدع
لاشبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الاسلام لم تقبل روايته لأن من شرط قبول الرواية للإسلام.
وأنه إن ظهر عناده أو إسرافه في اتباع الهوى والاعراض عن حجج الحق ونحو ذلك مما هو أدل على وهن التدين من كثير من الكبائر كشرب الخمر وأخذ الربا فليس بعدل، فلا تقبل روايته لأن من شرط قبول الرواية العدالة.
وأنه إن استحل الكذب، فإما أن يكفر بذلك، و إما أن يفسق، فإن عذرناه فمن شرط قبول الرواية الصدق لا تقبل روايته.
وأن من تردد أهل العلم فيه فلم يتجه لهم أن يكفروه أو يفسقوه ولا أن يعدلوه فلا تقبل روايته لأنه لم تثبت عدالته.
ويبقى النظر فيمن عدا هؤلاء، والمشهور الذي نقل ابن حبان والحاكم إجماع أئمة السنة عليه أن المبتدع الداعية لا تقبل روايته وأما غير الداعية فكالسني.
واختلف المتأخرون في تعليل رد الداعية، والتحقيق إن شاء الله تعالى أن مااتفق أئمة السنة على أنها بدعة فالداعية إليها الذي حقه أن يسمى داعية لا يكون إلا من الأنواع الأولى ان لم يتجه تكفيره اتجه تفسيقه فإن لم يتجه تفسيقه فعلى الأقل لا تثبت عدالته، وإلى هذا أشار مسلم في مقدمة صحيحة إذ قال:
" إعلم وفقك الله أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين، أن لا يروى منها إلا ماعرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ماكان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع، والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ماخالفه قول الله تعالى [ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على مافعلتم نادمين] وقال جل ثناؤه [ممن ترضون من الشهداء] وقال [وأشهدوا ذوي عدل منكم] فدل بما ذكرنا أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول وأن شهادة غير العدل مردودة، والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم ".
فالمبتدع الذي يتضح عناده إما كافر وإما فاسق، والذي لم يتضح عناده ولكنه حقيق بأن يتهم بذلك وهو في معنى الفاسق لأنه مع سوء حاله لا تثبت عدالته، والداعية الذي الكلام فيه واحد من هذين ولابد، وقد عرف أهل العلم العدالة بأنها " ملكة تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة .. " زاد السبكي " وهوى النفس " وقال " لابد منه فإن المتقي للكبائر وصغائر الخسة مع الرذائل المباحة قد يتبع هواه عند وجوده لشئ منها فيرتكبه ولا عدالة لمن هو بهذه الصفة " نقله المحلي في (شرح جمع الجوامع) لابن السبكي، ثم ذكر أنه صحيح في نفسه ولكن لا حاجة إلى زيادة القيد، قال " لأن من عنده ملكة تمنعه عن اقتراف ماذكر ينتفي عنه اتباع الهوى لشيء منه وإلا لوقع في المهوي فلا يكون عنده ملكة تمنع منه " أقول: مامن إنسان إلا وله أهواء فيما ينافي العدالة وإنما المحذور اتباع الهوى،
¥