خللاً وإن لم يتبين.
واختلف أهل العلم في الدرجة الأولى وهي الجرح المجمل إذا صدر من العارف بأسباب الجرح، فمنهم من قال يجب العمل به، ومنهم من قال لا يعمل به لأن الناس اختلفوا في أشياء يراها بعضهم فسقاً ولا يوافقه غيره. وفصل الخطيب فيما نقله عنه العراقي والسخاوي قال:" إن كان الذي يرجع إليه عدلاً مرضياً في اعتقاده وأفعاله عارفاً بصفة العدالة والجرح وأسبابهما، عالماً باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك قبل قوله فيمن جرحه مجملاً ولا يسأل عن سببه "
يريد أنه إذا كان عارفاً باختلاف الفقهاء فالظاهر أنه لا يجرح إلا بما هو جرح باتفاقهم.
وأقول: لابد من الفرق بين جرح الشاهد وجرح الراوي، وبين ماإذا كان هناك مايخالف الجرح وماإذا لم يكن هناك مايخالفه، فأما الشاهد فله ثلاث أحوال:
الأولى: أن تكون قد ثبتت عدالته في قية سابقة وقى بها القاضي ثم جرح في قضية أخرى.
الثانية: أن لا تكون قد ثبتت عدالته ولكن سئل عن عارفوه، فمنهم من عدله ومنهم من جرحه.
الثالثة: أن لا يكون قد ثبتت عدالته وسئل عنه عارفوه فجرحه بعضهم وسكت الباقون.
فأما الثالثة: فإن كان القاضي لا يقبل شهادة من لم يعدل فأي فائدة في استفسار الجارح؟ وإن كان يقبلها فلضعفها يكفي الجرح المجمل.
وأما الثانية: فقد يكثر الجارحون فيغلب على الظن صحة جرحهم وإن أجملوا، وقد لا تحصل غلبة الظن إلا بالدرجة الثانية من الجرح وهي بيان السبب، وقد لا تحصل إلا بأزيد منها مما مر بيانه، وإذا كان القاضي متمكناً من الاستفسار لحضور الجارح عنده أو قربه منه فينبغي أن يستوفيه على كل حال لأنه كلما كان أقوى كان أثبت للحجة، وأدفع للتهمة.
وأما الأولى: فينبغي أن لا يكفي فيها جرح مجمل ولو مع بيان السبب بل يحتاج إلى بيان المستند بما يدفع مايحتمل من الخلل.
وأما الراوي فحاله مخالفة للشاهد فيما نحن فيه، من أوجه:
الأول: أن الذين تكلموا في الرواة أئمة أجِلة، و الغالب فيمن يجرح الشاهد أ، لا يكون بتلك الدرجة ولا مايقاربها.
الثاني: أن الذين تكلموا في الرواة منصبهم الحكام وقد قال الفقهاء: إن المنصوب لجرح الشهود يكتفي منه بالجرح المجمل.
الثالث: أن القاضي متمكن من استفسار جارح الشاهد كما مر والذين جرحوا الرواة يكثر في كلامهم الإجمال، وأن لا يستفسرهم أصحابهم، ولم يبق بأيدي الناس إلا نقل كلامهم ولم يزل أهل العلم يتلقون كلماتهم ويحتجون بها.
وبعد أن اختار ابن الصلاح اشتراط بيان السبب قال:
" ولقائل أن يقول إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث ... وقلّ مايتعرضون لبيان السبب بل يقتصرون على ... فلان ضعيف، و: فلان ليس بشيء ونحو ذلك ... فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر، وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف، ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا (الصحيحين) وغيرهم ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه مخلص حسن ".
وتبعه النووي في (التقريب) و (شرح صحيح مسلم) ولفظه هناك:
" على مذهب من اشترط في الجرح التفسير نقول: فائدة الجرح فيمن جرح مطلقاً أن يتوقف عن الاحتجاج به إلى أن يبحث عن ذلك الجرح ... " وذكر العراقي في (ألفيته) و (شرحها) بعض الذين أشار ابن الصلاح إلى أن صاحبي (الصحيح) وكذلك سبق تعديلهم أيضاً فهذا يدل أن التوقف الذي ذكره ابن الصلاح والنووي يشمل من اختلف فيه فعدله بعضهم وجرحه غيره جرحاً غير مفسر وسياق كلامهما يقتضي ذلك، بل الظاهر أن هذا هو المقصود فإن من لم يعدل نصاً أو حكماً ولم يجرح يجب التوقف عن الاحتجاج به، ومن لم يعدل وجرح جرحاً مجملاً فالأمر فيه أشد من التوقف والارتياب.
فالتحقيق أن الجرح المجمل يثبت به جرح من لم يعدل نصاً ولا حكماً، ويوجب التوقف فيمن قد عدل حتى يسفر البحث عما يقتضي قبوله أو رده، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
6 ـ كيف البحث عن أحوال الرواة.
¥