قال ابن القيم في [شفاء العليل] ص 51: [وكلهم متفقون على أن الله غير فاعل لأفعال العباد، واختلفوا هل يوصف بأنه مخترعها، ومبدعها، وأنه قادر عليها وخالق لها فجمهورهم نفوا ذلك، ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله، وأن الله قادر على أعيانها، وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها، وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها، هذا عندهم عين المحال بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها] أ. هـ. كلامه.
وهؤلاء استدلوا بالأدلة الدالة على أن العمل مضاف إليه، والأصل في الإضافة أنها للحقيقة، ومن المعلوم امتناع معمول واحد من عاملين على وجه الاستقلال من كل منهما.
ولأنه لو كان الله خالقاً أفعالهم لكان عقابه إياهم على المعصية ظلماً لهم.
ولأننا نجد الفرق ضرورة بين الحركة الاختيارية، والحركة الاضطرارية، كالارتعاش وبأنه لو اعتدى شخص على بدن أو مال أو عرض ثم احتج بالقدر، وأن ذلك بغير اختيار منه، لرده جميع العقلاء.
لكن هؤلاء ألغوا جميع النصوص الدالة على أن خلق الله عام والتزموا أن يكون في ملكه مالا يريد، وغلوا في النصوص والأدلة الدالة على أن فعل العبد يضاف إليه، حيث زعموا أنه لا تعلق لإرادة الله وخلقه فيما يفعله العبد من الطاعات وغيرها، وجفوا عن النصوص الدالة على عموم خلق الله.
وأولئك غلوا في النصوص الدالة على عموم خلق الله لكل شيء وجفوا عن النصوص الدالة على أن للعبد فعلاً يضاف إليه ويقع باختياره. < o:p>
ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه، ولذلك كان أسعد الناس به هم أهل السنة والجماعة القائلون بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا يشذ عن هذا الأصل العظيم شيء وقد دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة قبل ظهور مجوسها القدرية النفاة، وهم مع ذلك يقولون: [إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة تضاف إليهم ويجازون عليها بالعدل والإحسان، وهذا لا ينافي أن يكون الله خالقاً لأفعالهم، فإن أفعال العباد تضاف إلى الله خلقاً وتكويناً، وتضاف إليهم فعلاً ومباشرة، وفرق بين مخلوق الله، وبين فعله، فأفعالهم مخلوقة بائنة عنه لا تنسب إليه على أنها فعله وهي فعل العباد الموصوفين فيها حقيقة، فهي من صفاتهم العائد حكمها إليهم، والعقلاء كلهم يعلمون أن فعل الفاعل ناشئ عن قدرته وإرادته الجازمة، لا يتخلف عنها البتة، ولا يمكن وجوده مع عدمه أو عدم إحداهما، والله تعالى هو الذي خلق الآدمي بما فيه من قدرة وإرادة، وخالق السبب التام خالق للمسبب، فالرب جعل إرادة العبد وقدرته سبباً لإيجاد فعله بمنزلة إحراق النار لما وقع فيها مما يقبل الاحتراق. فإن إحراق النار يضاف إليها على وجه المباشرة، ويضاف إلى من أوقدها على أنه هو فاعل السبب.
قال ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل ص 130 بعد أن أطال رحمه الله في الكلام على الكسب والجبر: فالطوائف كلها متفقة على الكسب، ومختلفون في حقيقته، فالقدرية قالوا: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالاً، وليس للرب فيه صنع ولا هو خالق فعله ولا مكونه ولا مريد له.
وقالت الجبرية: اقتران الفعل بالقدرة الحادثة من غير أن يكون لها فيه أثر.
ثم ذكر أن الأشعري في عامة كتبه، فسر الكسب بأن يكون الفعل بقدرة محدثة، فمن وقع الفعل منه بقدرة محدثة فهو مكتسب، ومن وقع منه بقدرة قديمة فهو فاعل خالق. < o:p>
وقال بعض المعتزلة: من يفعل بغير آلة ولا جارحة فهو خالق، ومن يحتاج في فعله إلى الآلات والجوارح فهو مكتسب، ثم قال: ونحن نقول: هي أفعال للعباد حقيقة ومفعولة للرب، فالفعل عندنا غير المفعول وهو إجماع من أهل السنة، فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته.
وسر المسألة أن العبد فاعل متفعل باعتبارين.
ثم قال ص 131: قلت: هاهنا ألفاظ، وهي فاعل، وعامل، ومكتسب، وكاسب، وصانع، ومحدث، وجاعل، ومؤثر، ومنشىء، وموجد، وخالق، وبارئ، ومصور، وقادر، ومريد.
وهذه الألفاظ ثلاثة أقسام:
قسم لم يطلق إلا على الرب، كالبارىء، والبديع، والمبدع.
وقسم لا يطلق إلا على العبد، كالكاسب، والمكتسب.
وقسم وقع إطلاقه على العبد والرب، كاسم صانع، وفاعل وعامل ومنشىء، ومريد، وقادر.
¥