و على عكس الأسلاف فإن الخلف لم يقم بدوره تجاه هذا الكم الهام و هذا الزخم الهائل، و لو قارنا بين اهتمام العرب و غيرهم بالمخطوطات لكان العرب في مؤخرة الترتيب، حيث نجد أنّ الأمم الأخرى قد اهتمت بمخطوطاتها صيانة و فهرسة وتحقيقا ونشرا، وتعدت مخطوطاتها إلى مخطوطات غيرها، في حين ظلت المخطوطات العربية تصرخ وتستنجد علّها تجد من يعتني بها و يصونها و ينفض الغبار عنها فضلا عن تقليب لوحاتها و النظر فيها.
المصادر التي شملتها المخطوطات:
لم يكن اتجاه المخطوطات العربية لتغطية علم بعينه أو فن بذاته بل تنوعت ينابيعها واختلفت مصادرها لتغطي كل الفنون و تشمل كل العلوم حتى ما عرف فن أو علم إلاّ ووجد حوله من الكتابات ما يعد كثرة و تنوعا.
و هو الأمر الذي ساد و انتشر في عهد الدولة الحفصية، حيث طرقت العلوم كلها و غطّت الفنون على اختلافها وتنوعها، وقد لمس العبدري صاحب الرحلة هذا بنفسه حيث قال: "ما من فن من فنون العلم إلاّ وجدت بتونس قائما، ولا مورد من موارد المعارف إلاّ رأيت بها حوله واردا وقائما، وبها من أهل الرواية والدراية عدد وافر يجلو الفخار بهم عن محيا سافر وينير علمهم" ([14] ( http://www.ulum.nl/d50.html#_edn14)).
هذا التراث الضخم ساهمت في المحافظة عليه مكتبات المساجد و التي ظهرت مع ظهور المساجد في بلاد المغرب العربي حيث كانت تؤسس في الجوامع الكبرى التي كانت مرجعا لطلبة العلوم الوافدين إليها من جميع الأصقاع والتي كانت تقوم بدور الجامعة، كخزانة جامع القرويين الذي يعتبر أقدم جامعة عربية إسلامية، وخزانة جامع الزيتونة بتونس، وخزانة حمو موسى بتلمسان وغيرها ... ، بالإضافة إلى الزوايا التي قامت بأدوار فاعلة سواء في تطوير الثقافة أو في المحافظة على التراث المخطوط كتلك الموجودة في منطقة توات والساورة بالجنوب الجزائري، أو تلك الموجودة بزاوية تامجورت الناصرية بالجنوب المغربي.
ولعبت المدارس دورا فعّالا في هذا المجال حيث كانت تحتوي على مكتبات كبيرة كان يتزود منها الطلبة القاطنين بها والقادمين من أماكن بعيدة كمدرسة ابن عنان المريني والمدرسة اليعقوبية بتلمسان وغيرها.
ولو أردنا أن نحصر أهم المصادر أو العلوم التي انطوت تحت المخطوط لعسر علينا الأمر وشق لكثرتها وتنوعها ولكنّ إطلالة على بعض الفهارس تهدينا للتعرف على أهمها دون ادعاء حصرها أو الإحاطة بها.
فقد ألفوا في القرآن وطرقوا كل ما يتصل به من تجويد وقراءات وتفسير والرسم القرآني، ومباحث خاصة وعامة شاملة لعلوم القرآن ...
وفي الحديث وعلومه وفي السيرة و الفقه و ملحقاته ..
وألّفو في اللغة حيث طرقوا فيها أبواب النحو والصرف والبلاغة والعروض والأدب ..
وفي التاريخ ألفوا في التاريخ العام وتاريخ المغرب العربي و تاريخ المشرق العربي ..
كما ألّفوا في الحساب والتراجم والجغرافية والرحلات والسياسة والرياضيات والطبيعيات و الفلاحة والكيمياء والفلك والتنجيم والموسيقى وعلوم متنوعة.
وكتبوا في التصوف والفلسفة وعلم الكلام والتوحيد والمنطق ...
و ألّفوا في الطب والصيدلة والبيطرة والحيوانات والنبات والأغذية وحفظ الصحة، وكتبوا في ذلك أراجيز ومنظومات ...
وكتبوا في علم التوثيق والشروط والسجلات والعقود، هذا العلم الذي خصته أقلامهم بالكتب والتأليف وتناولته مخطوطات كثيرة لمؤلفين كبار بين منشئ ومبدع وبين مخرج ومحقق.
علم التوثيق أنموذجا
وأحببت أن أتناول الحديث عن هذا العلم كنموذج لهذه الدراسة لأنه من العلوم التي أوشكت أن تنقرض الكتابة فيها لما اعترى مخطوطاتها على كثرتها الفقد والاندثار أو الخزن والإهمال.
فعلم التوثيق علم له أهمية قصوى ومكانة بين العلوم عظمى فهو يحفظ للأمة نظامها ويقيم لها توازنها ويدفع ما يهددها من مثالب وأخطار إذ به تصان الدماء وتحفظ الأموال وتحمى الفروج ويأمن النّاس على ممتلكاتهم وضيعاتهم، فهو أداة متينة لإثبات الحق وحمايته من الضياع، ينظم سير المعاملات ويقيمها على الأسس السليمة الوطيدة، ويكشف نوايا المتعاقدين والمتصرفين، ويحافظ على المحررات التي تثبت بها الحقوق والالتزامات، ويصونها على مر العصور والأيام.
¥