قال الإمام أبو حاتم بن حبان ((المجروحين)) (1/ 13): ((فمن لم يحفظ سنن النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يحسن تمييز صحيحها من سقيمها، ولا عرف الثقات من المحدثين ولا الضعفاء والمتروكين، ومن يجب قبول إنفراد خبره ممن لا يجب قبول زيادة الألفاظ فى روايته، ولم يعرف معانى الأخبار، والجمع بين تضادها فى الظواهر، ولا عرف المفسًّر من المجمل ولا عرف الناسخ من المنسوخ، ولا اللفظ الخاص الذى يراد به العام، ولا اللفظ العام الذى يراد به الخاص، ولا الأمر الذى هو فريضة، ولا الأمر الذى هو فضيلة وإرشاد، ولا النهى الذى هو حتم لا يجوز ارتكابه من النهى الذى هو ندب يباح استعماله: كيف يستحل أن يفتى، أو كيف يسوغ لنفسه تحريم الحلال أو تحليل الحرام، تقليداً منه لمن يخطئ ويصيب، رافضاً قول من لا ينطق عن الهوى)) اهـ.
وقد ترخص جماعة من العلماء فى الرواية، وفرقوا بين ما كان منها فى الأحكام فشددوا، وما كان فى الرقائق وفضائل الأعمال فتساهلوا، واحتجوا لذلك بما رُوى عن عبد الرحمن بن مهدى قال: ((إذا روينا عن النبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الحلال والحرام والأحكام شددنا فى الأسانيد وانتقدنا الرجال، وإذا روينا فى فضائل الأعمال والدعوات تساهلنا فى الأسانيد)).
وأقول: هذا مذهب فى قبول الأحاديث قد أخطئ الكثيرون فهم دلالته، ووسعوا دائرة العمل بمفهومه الخاطئ، حتى ضربوا بقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) عرض الحائط، فخرج أكثرهم عن حد التساهل إلى التغافل، وعن قيد التثبت والإحتياط إلى التقصير والإفراط، ولم يفرقوا بين إسنادٍ يسيرٍ ضعفُه مجبورٍ كسرُه، وإسناد ضعفه أكيد وكسره شديد، فقبلوا روايات الكذابين والوضاعين، وتوسعوا فى رواية كل ما يلقى قبولاً ورواجاً لدى عوام المسلمين.
والحق أن التساهل المذكور لا ينبغى أن يتطرق إلى الأسانيد الواهية والموضوعة والباطلة والمنكرة، وإلا لتهدمت قواعد وشرائط أداء وتحمل الروايات، وأهمها عدالة الرواة وضبطهم، وهذا معلوم من مذهب الإمام ابن مهدى نفسه، فقد كان شديد الإنتقاد للرواة، واسع المعرفة بدقائق علل الأحاديث. وعلى هذ العمل عند جماهير أهل العلم بالحديث: كالعز بن عبد السلام، وأبى عمرو بن الصلاح، وتقى الدين بن دقيق العيد، وتقى الدين على بن عبد الكافى السبكى، وتقى الدين أحمد بن تيميه، وشمس الدين بن القيم، وعماد الدين أبى الفداء بن كثير، وزين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقى، وشمس الدين الذهبى، وابن حجر، والسخاوى، والسيوطى، وجماعة لا يحصون كثرة. وتحرير القول فى هذا المهيع الصعب، ما نظمه الحافظ زين الدين العراقى فى ((التبصرة والتذكرة)):
فإن يُقلْ يُحتجُّ بالضعيفِ فَقُل إذا كانَ من الموصوفِ
رواتُه بسوء حفظٍ يُجبرُ بكونه من غيرِ وجهٍ يُذكرُ
وإن يكنْ لكذبٍ أو شذَّا أو قَوِىَ الضُّعفُ فلم يُجبرْ ذَا
وهذا الذى حرره ـ رحمه الله ـ هو حد الحديث الحسن عند الإمام الترمذى. فهذا النوع من الحديث ـ يعنى الحسن عند الترمذى ـ، أو الضعيف المنجبر عند العراقى، هو الذى عناه الإمام عبد الرحمن بن مهدى، وأحمد بن حنبل، والترمذى، والبيهقى، والبغوى، وغيرهم ممن تساهلوا فى أسانيد الرقائق والزهد، والدعوات وفضائل الأعمال، وقالوا بجواز العمل به.
وقد حرَّر الحافظ ابن حجر العسقلانى هذا المعنى تحريراً بالغاً، فيما ذكره عنه الحافظ السخاوى فى ((القول البديع)) (ص258): ((سمعت شيخنا ـ يعنى ابن حجر ـ مراراً يقول، وكتبه لى بخطه: إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة:
(1) أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج هذا القيد الكذَّابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.
(2) أن يكون مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع، بحيث لا يكون له أصلٌ أصلاً.
(3) ألا يعتقد عند العمل به بثبوته، لئلا ينسب إلى النَّبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما لم يقله)) اهـ.
¥