الأفق الأعلى."
وهذا ما قد حدث بين حازم وسائر علماء البلاغة. فإنهم قد أوصلوا هذا العلم إلى أوجه وقمته وربطوه بإعجاز القرآن، وشيدوا بناءه وأثبتوا دعائمه.
ثم جاء حازم يستجلي روحه ويستخرج أصوله دون النظر إلى الظواهر التي اهتم بها من قبله، فلم يصل جهوده بجهود السابقين من البلاغيين والنقاد. فلذلك وقف كتاب المنهاج من علم البلاغة موقف المهين المتعالي، مما أحدث الجفوة والنبوة بينه وبين علم البلاغة. "فلا هو صحّ له ما يريد من تأصيل نظرياته العليا، ولا علم البلاغة استفاد من تلك النظريات زهرة وتجدداً، لأنها بقيت بعيدة عنه ... "
وهذا قد حدث بين حازم وسائر علماء البلاغة. فإنهم قد أوصلوا هذا العلم إلى أوجه وقمته وربطوه بإعجاز القرآن، كما أنهم شيدوا بناءه وأحكموا صنعته.
ومع كل ذلك، فإن الصعوبة الكامنة في كتاب المنهاج أدت بلا شك إلى نفور الناس منها وعدولهم إلى مباحث البلاغة المدرسية التي أرست قواعدها واستوفت حاجاتها من الشرح والتبسيط.
الباب الثاني: القضايا النقدية والبلاغية في كتاب منهاج البلغاء
الفصل الأول: ماهية الشعر
سبقت الإشارة إلى أن كتاب المنهاج تنصب مباحثه على نقد الشعر، حيث يمتد هذا الموضوع على جميع فصول الكتاب. لذا نلاحظ أن المفهوم الكلي للشعر متفرق عبر الكتاب، في أثناء مناقشته للمسائل النقدية المختلفة.
قد عرّف حازم الشعر بأنه "كلام موزون مقفّى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرّه إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك." فهو يعترف بأن الشعر "كلام موزون مقفى"، لكنه صب اهتمامه في هذا التعريف على ناحية التأثير، أي حمل الشعر على التحبيب والتنفير، كما لاحظنا ذلك في تعريفه السابق.
وهناك عناصر تكفل للشعر هذا الفعل، منها: حسن التخييل أو المحاكاة أو الصدق أو الاغتراب، كما يظهر ذلك من قوله: "فأفضل الشعر ما حسنت محاكاته وهيأته، وقويت شهرته أو صدقه، أو خفي كذبه، وقامت غرابته". وأردأ الشعر ما كان ضد ذلك. وهذا القسم جدير بألا يسمى شعرا، وإن كان موزونا مقفى، إذ المقصود بالشعر معدوم منه.
ذلك هو تعريف الشعر بالنسبة لتأثيره.
وأما من حيث الإبداع، فتتولد المعاني الشعرية من قيام هذا الفن بوصف حالات النفس وانفعالاتها وتأثراتها؛ فهناك ظواهر تسير بالنفس بين قبض وبسط، وحركات النفس بسائط ومركبات، تتضمن الارتياح والاكتراث وما تركب منهما – وهي الطرق الشاجية؛ والأنواع التي تقع تحت هذه الأجناس هي: الاستغراب والاعتبار والرضى والغضب والنزاع والنزوع والخوف والرجاء.
وهذا الإبداع لا يتأتى على أكمل الوجوه إلا بحصول ثلاثة أشياء، وهي: المهيئات والأدوات والبواعث.
أما المهيئات فأهمها البيئة ذات الهواء الطلق، والمطعم الطيب، والمناطق الأنيقة، والترعرع بين الفصحاء الذين دربوا على الإحساس بالإيقاع وحفظ الكلام الموزون.
والأدوات هي العلوم المتعلقة بالألفاظ والعلوم المتعلقة بالمعاني.
والبواعث تنقسم إلى أطراب وآمال. فالأطراب كعوامل الحنين والآمال كالاستشراف إلى العطاء وما أشبه.
وبجانب هذه العوامل، لا بد لكمال إبداع الشعر من توفر قوى داخلية، وهي ثلاثة:
القوة الحافظة، وهي أن تكون خيالات الفكر منتظمة متمايزة، تلبس الموضوع صورة جلية حقيقية، مع تجنب جميع ما يعكرها ويكسبها الغموض وعدم الانتظام.
القوة المائزة هي التي يميز بها الشاعر ما يلائم موضوعه ونظمه وأسلوبه وغرضه مما لا يلائم ذلك.
القوة الصانعة هي التي تضم الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية بعضها إلى بعض.
وإذا اجتمعت هذه القوى جميعها في الشاعر، سمي ذلك بالطبع الجيد في صناعة الشعر.
¥