وتبدو لنا من جملة ما سبق سيطرة حازم على مختلف جوانب النقد التي نجدها في أماكن متفرقة على مرّ الزمان. فهو قد استفاد من النقاد الفلاسفة في تعريف الشعر وتعلقه بحركات النفس، كما أخذ عن الجاحظ القول بأثر البيئة والعرق، ووقف في صف النقاد الذين قالوا بحاجة الشاعر إلى الثقافة (العلوم). وأما حديثه عن القوى الحافظة والمائزة والصانعة فهو قياس على ما نجده عند الفلاسفة (وخاصة ابن سينا) من الحديث عن قوى النفس: قوة الفنطاسيا والقوة المصورة والقوة المخيلة والقوة الوهمية والقوة الحافظة الذاكرة. فأحسن حازم الجمع بين هذه النظريات المتبعثرة واستخلص منها تصوره لماهية الشعر، التصور الذي يتسم بغاية الدقة والإتقان.
الفصل الثاني: تقسيم الشعر
المبحث الأول: طرق الشعر (جد وهزل)
تقدم الحديث عن التأثير الأرسطي على نقد حازم في تقسيمه طرق الشعر إلى جدِّي وهزلي، وفي هذا الفصل سنتناول مفهوم حازم لهاتين الطريقتين وما يختص به كل منهما.
ينقسم الشعراء من هذه الحثيثة إلى منهجين: الجد والهزل، "فأما طريقة الجدّ فهي مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مروءة وعقل بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك.
وأما طريقة الهزل فإنها مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مجون وسخف بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك."
ويجب في الطريقة الأولى أن يُتجنّب الهزل، أي الساقط والمولد من الألفاظ، ويعتمد على العربي المحض الصريح في الفصاحة، ويعتمد فيها من المعاني ما لا يشين ذكره ولا يسقط من مروءة المتكلم، ويُتحرّى فيها المتانة والرصانة.
وأما الطريقة الهزلية، فقد تقتبس شيئا من الطريقة الجدية (بغير العكس). وقد قال سقراط: "حكاية الهزل لذيذة سخيف أهلها، وحكاية الجدّ مكروهة، وحكاية الممزوج منهما معتدل. ولا يقبل شاعر يحكي كل جنس، بل نطرده وندفع ملاحته وطيبه، ونقبل على شاعرنا الذي يسلك مسلك الجد فقط".
المبحث الثاني: أغراض الشعر
أشار حازم في مستهل حديثه عن تقسيم الأغراض الشعرية إلى أقوال النقاد السابقين حول هذه القضية، وأورد اختلافهم في ذلك.
فقسم بعضهم الأغراض إلى ستة أقسام: "مدح وهجاء ونسيب ورثاء ووصف وتشبيه". وحصرها بعض آخر إلى خمسة، حيث أرجع التشبيه إلى معنى الوصف.
ولم يعجب حازم بهذا التقسيم، وألزم أصحاب هذا الرأي أن يدخلوا قسم الوصف في الذم أو الحمد. فذلك متعين وإن لم تكن تلك الأوصاف مما يحتاج الناس إلى حمد موصوفاتها أو ذمها؛ إذ "في كل الحالات يصل إليها من ذلك شيء."
ثم استأنف في إيراد أقوال النقاد في الأغراض، فهي عند فريق أربعة: "الرغبة والرهبة والطرب والغضب"، وعند فريق آخر: "الشعر كله في الحقيقة راجع إلى معنى الرغبة والرهبة."
وبعد هذا السرد القصير بدأ حازم في بيان طريقته الخاصة في هذا التقسيم وقال: "وهذه التقسيمات كلها غير صحيحة لكون كل قسم منها لا يخلو من أن يكون فيه نقص أو تداخل. وأنا أذكر الوجه الصحيح والمأخذ المستقيم في القسمة التي لا نقص فيها ولا تداخل."
وهو يطلب بهذا مبدأ الوحدة الذي طلبه قدامة عندما جعل أغراض الشعر نابعة من منبع واحد أخلاقي هو الفضيلة (وما يناقضها) وأنها تتجسم في صورة واحدة هي المدح (وما يناقضه). لكنه سلك طريقا جديدة في تصوير فذه الوحدة فقال: "إن الأقاويل الشعرية لما كان القصد بها استجلاب المنافع واستدفاع المضار ببسطها النفوس إلى ما يراد من ذلك وقبضها عما يراد بما يخيل لها فيه من خير أو شر، وكانت الأشياء التي يرى أنها خيرات أو شرور منها ما حصل ومنها ما لم يحصل، وكان حصول ما من شأنه أن يطلب يسمى ظفرا، وفوته في مظنّته الحصول يسمّى إخفاقا، وكان حصول ما كان من شأنه أن يُهرب عنه يسمى أذاة أو رزءا، وكفايته في مظنة الحصول تسمى نجاة، سمي القول في الظفر والنجاة تهنئة، وسمي القول بالإخفاق إن قصد تسلية النفس عنه تأسيا، وإن قصد تحسرها تأسُّفا، وسمي القول في الرزء إن قصد استدعاء الجلد على ذلك تعزية، وإن قصد استدعاء الجزع من ذلك سمي تفجيعا، فإن كان المظفور به على يدي قاصد للنفع جوزي على ذلك بالذكر الجميل وسمي ذلك مديحا، وإن كان الضار على يدي قاصد لذلك فأدى ذلك إلى ذكر قبيح سمي ذلك هجاء، وإذا كان الرزء بفقد شيء فندب ذلك سمي ذلك رثاء."
¥