وعلى هذا، فالشاعر القوي إذا نظم شعرا على الوافر "اعتدل كلامه وزال عنه ما يوجد فيه مع غيره من الأعاريض القوية من قوة العارضة وصلابة النبع." والمثال على ذلك أبو العلاء المعري، "فإنه إذا سلك الطويل توعر في كثير من نظمه حتى يتبغّض، وإذا سلك الوافر اعتدل كلامه وزال عنه التوعر"
ويبدو تأثره بالثقافة اليونانية في هذا المجال واضحا. فهو يصرِّح بأن أصل هذه النظرية مستوحى من كلام ابن سينا، حيث قال: "وهذا ما ذكرته من تخييل الأغراض بالأوزان قد نبه عليه ابن سينا في غير موضع من كتبه، ومن ذلك قوله في الشفاء، في تعديد الأمور التي تجعل القول مخيّلا: ((والأمور التي تجعل القول مخيلا: منها أمور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه وهو الوزن، ومنها أمور تتعلق بالمسموع من القول، ومنها أمور تتعلق بالمفهوم من القول، ومنها أمور تتردد بين المسموع والمفهوم))."
الفصل الرابع: نظم الشعر
خصص حازم باباً كاملا في كتابه للكلام عن النظم، وهو عنده شامل لصناعة الشعر كلها. وقد عرّفه في أول الباب قائلا: "النظم صناعة آلتها الطبع. والطبع هو استكمال للنفس في فهم أسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والأغراض التي من شأن الكلام الشعري أن ينحى به نحوها؛ فإذا أحاطت بذلك علما قويت على صوغ الكلام بحسبه عملا، وكان النفوذ في مقاصد النظم وأغراضه وحسن التصرف في مذاهبه وأنحائه إنما يكونان بقوى فكرية واهتداءات خاطرية تتفاوت فيها أبكار الشعراء."
ولكي يكون الشعر مكتملا، لا بد من وجود بعض القوى الضرورية. قال حازم: "اعلم أن خير الشعر ما صدر عن فكر وَلِع بالفن"، وهو لا يريد بذلك أن الشعر يصدر عن فكر، فقد قرر أنه وليد حركات النفس، وإنما يريد أن يكون لدى الشاعر صدق الإحساس بالتجربة الشعرية. "ولهذا كان أفضل النسيب ما صدر عن سجية نفس شجية". ويستدرك حازم على هذه الفكرة حيث يجعل الخيال قادراً على تعويض تلك التجربة؛ والخيال إنما يتأتى عن طريق الثقافة ودراسة طرق السابقين حتى تصبح للشاعر "قوة على التشبه" ( identification). والشعراء في هذه القوة قسمان:
"فأما من ينسحب تأثير تلك القوة على جميع كلامه أو أكثره فهم الذين لا تحتاج فيهم تلك القوة إلى معاونة من أمر خارج عن الذهن من الأمور الباعثة على قول الشعر، لتوفير تلك القوة فيهم على كل حال. ومن أيمة هذا الصنف: الشريف ومهيار وابن خفاجة.
وأما من لا ينسحب تأثير تلك القوة التشبيهية إلا على الأقلّ من كلامه فهم الذين تحتاج تلك القوة فيهم إلى معاونة بالأمور الباعثة على قول الشعر."
وهذه القوى التي تحتاج إليها الشاعر لنظم الشعر عشر:
القوة على التشبيه فيما لا يجري على السجية ولا يصدر عن قريحة بما يجري على السجية ويصدر عن قريحة.
القوة على تصور كليات الشعر والمقاصد الواقعة فيها والمعاني الواقعة في تلك المقاصد ...
القوة على تصور صورة للقصيدة تكون بها أحسن ما يمكن (من حيث توالي أجزائها).
القوة على تخيل المعاني بالشعور بها ...
القوة على ملاحظة الوجوه التي يقع بها التناسب بين المعاني.
القوة على التهدي إلى العبارات الحسنة الوضع والدلالة على تلك المعاني.
القوة على التخيّل في تسيير تلك العبارات متّزنة ...
القوة على الالتفات من حيّز إلى حيّز والخروج منه إليه والتوصل به إليه.
القوة على تحسين وصل بعض الفصول ببعض والأبيات ببعضها.
القوة المائزة حسنَ الكلام من قبيحه بالنظر إلى نفس الكلام وموضعه.
ومن هذه التقسيمات يظهر لنا مرة أخرى شغف حازم بالتقسيمات المنطقية. ولو اكتفى بذكر قوة الخيال – وهي قوة واحدة التي بإمكانها أن تحقق أكثر مما أراد حازم – حسب رأي الدكتور إحسان عباس - لما احتاج إلى كل هذا الالتواء. ثم يمضي حازم في هذه التقسيمات فيرى أن الذي اجتمعت في هذه القوى فهو الشاعر في الحقيقة أو الشاعر الكامل. وهذه الطائفة هم الشعراء الذين يقوون على تصوّر كليات المقولات؛ والمرتبة الثانية هم الذين حصل لهم قسط متوسط من هذه القوى وهم الذين تغلب فيهم الدربة على الخيال؛ والمرتبة الثالثة هم الذين حصل لهم قسط قليل من تلك القوى، وهم أدعياء الشعراء ومن المتلصّصون الغيورون على معاني غيرهم – "وهم شر العالم نفوسا وأسقطهم همماً وهم النقلة للألفاظ والمعاني على صورها في الموضع المنزل منه من غير أن يغيّروا في ذلك ما يعتدّ
¥