وملخص فكرة أرسطو في المحاكاة أنها "تلك الفكرة التي نعبر عنها تعبيراً مبهماً حين نقول عن الشاعر أو الأديب: إنه مرآة عصره، أو حين نقول عن الأديب أو الفن عامة: إنه يعكس واقع الحياة ممتزجا برغبات الإنسان وآماله ومعتقداته."وإذن، "فليست المحاكاة عنده مجرد تقليد للواقع، بل هو يحاكي أيضا ما يقدر كونه، وما يعتقد أنه كان وإن لم يكن في الحقيقة. فهذه فكرة من الأفكار الضخمة الخالدة في التراث النقدي، لا تزال تتناول بالدرس وتؤلف فيها الكتب ... "
وقد أخذ أرسطو الكلمة عن أستاذه أفلاطون، ولم ير الحاجة إلى تعريف هذه الظاهرة ولا إلى تحديدها، والمعلوم أن أفلاطون يعد الفن محاكاة للأشياء المحسة "فيرسم لها نسخة تجيء من مراتب الوجود في منزلة أدنى من الشيء المحس نفسه الذي عمد الفن إلى تصويره، فإذا عرفنا أن الأشياء المحسة بدورها لا تزيد على كونها نسخات لأصول عقلية ثابتة، أدركنا كم يبعد الفنان بفنه عن الحقيقة – تلك هي المحاكاة عند أفلاطون، وأما أرسطو فقد أخذ مبدأ المحاكاة، لكنه جعل المحاكاة محاكاة – لا للأشياء المحسة – بل للشخصيات والانفعالات والأفعال، أعني أن محاكاة الفن للحقيقة عنده لا تكون محاكاة للعالم المحسوس، بل تكون محاكاة لدنيا الحياة العقلية داخل الإنسان.
فأرسطو يجعل المحاكاة قوام الشعر – وهو عنده يشمل الموسيقى والرقص بالإضافة إلى الكلام المنظوم."
ولنعد إلى القرطاجني ورؤيته لهذه القضية النقدية القديمة. وأول شيء نلاحظه عند كلامه عن التخييل أنه يجعله من مقومات الشعر تبعا لأرسطو، حيث قال في تعريف الشعر: "الشعر كلام مخيل موزون ... " ثم إذا نظرنا إلى تعريف هذا العالم للتخييل والمحاكاة نجد أنه يريد بهذين اللفظين ما يريده بهما الفلاسفة المسلمون تماما. فالتخييل والمحاكاة عنده – هما الشيء الواحد وإن اختلفت جهة التسمية. فالتخييل – كما عرفه بنفسه – هو "أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها، أو بصور شيء آخر بها انفعالا من غير روية إلى جهة من الانبساط أو الانقباض."
ويوحي قوله: "ينفعل لتخيلها وتصورها أو تصور شيء آخر بها" أنه يقسم المحاكاة إلى محاكاة الشيء في نفسه، وهي الوصف؛ ومحاكاة الشيء في غيره، وهي التشبيه؛ وقد جاء تأكيد ذلك في أثناء كلامه في هذا الموضوع بوضوح.
ويظهر ولوع حازم بالتقسيمات المنطقية بشكل كبير في هذه المسألة. فنحن نراه يقسم التخييل (المحاكاة) من عدة زوايا وعلاقات. فمن أهم تلك التقسيمات أن التخييل بالنسبة إلى الشعر قسمان: تخييل ضروري وتخييل غير ضروري، ولكنه أكيد أو مستحب. وهذا التخييل يقع في الشعر من جهة المعنى، والأسلوب، واللفظ، ومن جهة النظم والوزن.
وقسّم المحاكاة من حيث الغاية إلى محاكاة تحسين، ومحاكاة تقبيح، ومحاكاة مطابقة، وربما كانت الأخيرة في قوة الأوليين. ولم يخف القرطاجني انه اعتمد في هذا التقسيم على قول ابن سينا وكل هذا هو إيجاز لقول أرسطو إن الرسام أو الشاعر قد ينقل الشيء كما هو أو أدنى مما هو أو كما يجب أن يكون.
وفصل حازم القول في أحكام التحسين والتقبيح. فلكي نعرف طريقة التحسين والتقبيح يجب أن تكون موضوعات صناعة الشعر هي الأشياء التي لها انتساب إلى ما يفعله الإنسان ويطلبه ويعتقده. وطرق تعلق تحسين المحاكاة وتقبيحها بالشيء أو فعله أو اعتقاده من أربع جهات: الدين، العقل، المروءة (الخلق)، المصلحة (ويسميها القرطاجني الحظ العاجل). وولّد من متعلقات التحسين والتقبيح أربع وعشرين صورة.
وتحدث حازم عن المحاكاة التشبيهية ونظر إليها من جهات، فمن ذلك جهة الوجود والفرض؛ "وينبغي أن تكون المحاكاة على الوجه المختار بأمر موجود لا مفروض"، وألزم أن تكون المحاكاة بالمحسوس، و"أن تكون المحاكاة التي يقصد بها وضوح الشبه متصرفة إلى جنس الشيء الأقرب كتشبيه أيطل الفرس بأيطل الظبي" أو "الجنس الذي يلي الجنس الأقرب كتشبيه الأشياء الحيوانية بالأشياء النباتية، نحو تشبيه قلوب الطير رطبة بالعناب ويابسة بالحشف"؛ وأن يكون المثال المحاكى به معروفاً عند جميع العقلاء أو أكثرهم، وأن يقع التشبيه على أشهر الصفات.
¥