وإذا لم يُقصد بالمحاكاة تحسين ولا تقبيح سمي ذلك مطابقة، والمذهب الأمثل فيها محاكاة الحسن بالحسن والقبيح بالقبيح، وأي تفاوت في المقدار أو اللون قد يفسد المحاكاة؛ وأما الهيئة فلا يلتفت فيها إلى التفاوت لأن الهيئة تؤخذ جملة ولا تؤخذ تفصيلا.
وبيّن بإسهاب أحكام كل من محاكاة الشيء في نفسه ومحاكاة الشيء في غيره. ولم يسلم مرة أخرى من كثرة التفريعات، فهو يذكر أن النوع الأول (محاكاة الشيء نفسه) قد تدرك بالحس وقد لا تدرك، ولكن طريقة الشاعر في وصفها يجب أن تكون حسية دائما، بأن يخيل الشيء الموصوف بما يحيط به من هيئات وأحوال محسوسة، فيكون "تخييل الشيء من جهة ما يستبينه الحس من آثاره والأحوال اللازمة له حال وجوده والهيئات المشاهدة لما التبس به ووجد عنده. وكل ما لم يحدد من الأمور غير المحسوسة بشيء من هذه الأشياء، ولا خصص بمحاكاة حال من هذه الأحوال بل اقتصر على إفهامه بالاسم الدال عليه، فليس يجب أن يعتقد في ذلك الإفهام أنه تخيل شعري أصلا، لأن الكلام كله كان يكون تخييلا بهذا الاعتبار."
ويضع حازم ضوابط "المحاكاة التامة"؛ فهي في الوصف "استقصاء الأجزاء التي بموالاتها يكمل تخييل الشيء الموصوف. وفي الحكمة استقصاء أركان العبارة عن جملة أجزاء المعنى الذي جعل مثالا لكيفيات مجاري الأمور والأحوال وما تستمرّ عليه أمور الأزمنة والدهور. وفي التاريخ استقصاء أجزاء الخبر المحاكى وموالاتها على حدّ ما انتظمت عليه حال وقوعها، كقول الأعشى:
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به في جَحْفَلٍ كسواد الليل جرّار
إذ سامه خِطَّتي خَسْفٍ، فقال له: قل ما تشاء فإني سامع حار
فقال: غدر وثكل أنت بينهما فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل، ثم قال له: اقتل أسيرك إني مانع جاري
فهذه محاكاة تامة؛ ولو أخلّ بذكر بعض أجزاء هذه الحكاية لكانت ناقصة، ولو لم يورد ذكرها إلا إجمالا لم تكن محاكاة ولك إحالة محضة.
وعند بيان سبب قوة المحاكاة الشعرية على التأثير، يعود حازم أيضا إلى ابن سينا وينقل ما قاله أرسططاليس في التذاذ النفوس وانفعالها بالمحاكاة من حيث هي محاكاة، وبما زاد فيها من طبيعة التوافق الموسيقي. وقد فسّر حازم هذا التوافق الموسيقي بتلذذ السمع بجمال العبارة الشعرية وذلك يشبه ابتهاج العين برؤية الأشربة "في الآنية التي تشف عنها كالزجاج والبلور"، مما لا يتأتى عند رؤيتها في آنية خزفية. "وهذا الجمال يعتمد على اختيار مادة اللفظ وتلاؤم التركيب، وفي هذا تنفرد الأقاويل الشعرية عن غيرها من الأقاويل"، إلا أن هذه المحاكاة ليست أبداً على درجة واحدة من التأثير، فإن ذلك مقيد ومتوقف على مقدار الإبداع فيها كما استعداد النفس لقبولها. والاستعداد النفسي نوعان: هو إما حالة معينة تكون فيها النفس مستعدة لتقبل محاكاة ملائمة لتلك الحالة، أو هو استعداد عام، أو الاعتقاد بالشعر. وهذا ما قد فقد في عصر حازم بفقدان الشعر، مما سبق بيانه. فهناك أناس حرموا فهم الشعر، وحرموا التحرك النفسي للمحاكاة الشعرية.
وفي خاتمة حديثه عن مسألة التخييل والمحاكاة يطرح صاحب المنهاج سؤالا دقيقا، ثم يجيب عنه ويرد شبه المعترضين على رأيه.
والسؤال هو: لماذا لا يكون التذاذ الناس بالشيء المحكي نفسه أكثر من التذاذهم بالمحاكاة نفسها؟ لمَ لا تكون اللذة الناجمة عن رؤية امرأة جميلة أكبر بكثير من رؤية تمثال فني لتلك المرأة؟ فيجيب بأن اللذة حاصلة في الحالتين إلا أنه تختلف طبيعتها. فاللذة الحاصلة من رؤية الشيء نفسه نابعة من حسن ذاك الشيء، بينما تحصل اللذة من رؤية تمثال ذاك الشيء من أمرين: من تعجيب النفس، ولأن الشيء المحكي قد لا يكون جميلا في الحالات كلها، ولكن تخييله بالمحاكاة قد يجعله حسنا في كل حال.
وضرب الدكتور إحسان عباس مثالا من الطبيعة تبسيطا لهذه المسألة، حيث قال: "إن منظر الشمعة أو المصباح ربما كان جميلا، ولكن انعكاس صورة الشمعة أو المصباح على صفحة مائية صافية أجمل بكثير من الشيئين في الواقع، أولاً لحدوث اقترانات جديدة (بين الضوء وصفحة الماء) وثانيا لأن هذا الصورة أقل تكرارا من رؤية الشمعة نفسها، والنفس إلى ذلك أميل ذهابا من الاستطراف"
¥