وطلب أن تكون النُّقلة بين المعنيين متناسبة، وأن يكون بينهما اتصال وحسن اقتران وإلا كان حشوًا، والتفريع يحسن في البيت الواحد وفي غير كثرة حتى لا ينقلب إلى عكس المقصود منه.
لايختلف المؤلفون المحدثون في أن كتاب "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" من أفضل كتب النقد وأكملها. ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن القرطاجني كاتب يتمتع بقدر هائل من الثقافة العامة وجوانب علمية متنوعة. وعرفنا منه أنه قد اطلع على آثار النقاد والبلاغيين العرب، كما أنه اطلع على المؤلفات الهيلينية، ثم أضاف إلى ذلك ذوقه الأدبي الشعري، الذي اكتسبه من كثرة اطلاعه على أشعار السابقين. وأدى كل هذه إلى أن وجدنا أنفسنا أمام ناقد بارع، صاحب آراء جديدة لم يسبقه إليها أحد من متقدميه. ونقده قد اعتمد على دعامتين أساسيتين هما:
الأخذ بالمبادئ الأرسطية في الشعر وأحيان في الخطابة، وقد ارتسم ذلك في التزامه بمبدأ الوحدة في قضية منبع الشعر حين جعله وليد قوة واحدة، وهي حركات النفس، وغير ذلك من المسائل التي سبق ذكرها.
اعتماده على الذوق الأدبي الرفيع، الصادر عن نفس شاعرة. فقد ساعده ذلك على توجيه بعض نظريات أرسطو وتكييفها وفق طبيعة الشعر العربي، مما تبين لنا في غير موضع من هذا البحث.
لذلك فإن نقد حازم يحمل الشمولية التي لا نجدها عند غير من أصحاب هذا الفن.، "فقد استطاع أن يجيب على أكثر المشكلات الهامة التي عرضت للنقد الأدبي على مرّ الزمن، على منهج قائم على منطق خاص لصاحبه ... "
1 - ما انفرد به حازم
سبق أن ذكرنا أن كتاب المنهاج لم يكن مجرد إعادة لكتابات السابقين وتوجيها لكلامهم؛ بل استطاع في مؤلفه أن يعيد بناء النقد الأدبي ويقيمه على أركان سليمة. وقد تفرد حازم بمسائل نقدية وبلاغية كثيرة. فمن ذلك أننا لاقينا في أول ناقد يتحدث عما يسمى اليوم "التجربة الشعرية" المستمدة من الواقع، وذلك حين يردّ الشعر إلى العوامل النفسية دون غيرها.
ومن ناحية الأسلوب، تفرد حازم بتناوله لقضايا كتابه بأسلوب حكمي فلسفي دقيق؛ ويستعمل كثيراً من المصطلحات الفلسفية، وخاصة مصطلحات المناطقة. ولا يتعرض حازم في ملاحظاته النقدية والبلاغية إلى أنظار المتكلمين، "الذين بسسب انشغالهم بمشكلة الإعجاز في القرآن يظنون أنهم يقدرون على القول في هذا الفن". فهو يضعف مذاهبهم، كما سبق ذلك في موضعه، ويصرف الدارسين عنها.
وفي مجال المصطلحات، فقد أحدث حازم بعض المصطلحات الخاصة به؛ فمن ذلك التسويم والتحجيل، اللذان ذكرهما عند حديثه عن أقسام القصيدة، فالتسويم هو اعتماد الأغراض الأصلية في رؤوس الفصول، والتحجيل هو تذييل أواخر الفصول بالأبيات الحكمية والاستدلالية.
وما يلفت النظر خاصة من هذه التجديدات، هو التسميات التي يطلقها حازم على فصول كتابه. قال الدكتور إحسان عباس محلّلا ومعلّلا هذه المصطلحات: "فالمنهاج (أو المنهاج) هو الطريق الواسعة ولذلك كان كل فصل بهذا العنوان (في الإبانة عن ماهيته)، وعلى طول هذا الطريق "معلم" أي إشارة تدل على "طرق العلم" و"معرف" أي إشارة تدل على "معرفة"، والفرق بين الاثنين أن العلم يومئ إلى القواعد التي تستند إلى شئون الذهن والقواعد المتصلة بالتفريعات المنطقية، وأن المعرف يدلّ في الغالب على التقديرات النفسية، أما "المأم" فإنه يدل على مذهب يفضي إلى غاية أو مقصد. وهذه المصطلحات الثلاثة متصلة من عنوان الكتاب بلفظة "منهاج البلغاء"؛ غير أن الساري على الطريق بحاجة إلى "سراج" (القسم الثاني من العنوان) وهذا السراج هو الذي يمنح الماشي على المنهاج "إضاءة" و"تنويرا" والفرق بينهما أن الإضاءة أقل سطوعا من التنوير، لكل فقرة تحمل عنوان إضاءة هي بسط لفكرة فرعية، وكل تنوير فهو مزيد بسط لفكرة جزئية قد تجيء في الإضاءة نفسها."
2 - الفرق بينه وبين الاتجاه المشرقي
أول ما يميز عمل حازم القرطاجني عن غيره من العلماء أنه لم يبحث البلاغة على الطريقة المدرسية مثل ما فعل السكاكي ومن سبقه من البلاغيين. فهو، بخلاف المشارقة، قد بنى نظريته النقدية على أسس منطقية حكمية، وعلى ذوقه النابع عن نفس شاعرة.
¥