وكل ما في الأمر أنَّ هذه الحقيقة الكونية كانت غائبة من جهة تفاصيلها عن السابقين، فمنَّ الله على اللاحقين بمعرفة هذه التفاصيل، فكشفوا عنها، وأثبتوا حقيقة ما جاء في القرآن من صدق، فكان اكتشاف ذلك من دلائل صدق القرآن الذي أخبر عنها بدقة بالغة، لم تظهر تفاصيلها إلا في هذا العصر الذي نبغ فيه سوق البحث التجريبي الذي صارت دولته إلى الكفار دون المسلمين، فصاروا إذا ما اكتشفوا أمرًا جديدًا عليهم سارع المعتنون بالإعجاز العلمي لإثبات وجوده في نصوص القرآن.
4 ـ إن كثيرًا ممن كتب في الإعجاز العلمي ليس ممن له قدم في العلم الشرعي فضلاً عن علم التفسير، وكان من أخطار ذلك أن جُعلت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلاً يُحكم به القرآن، وتأوَّل آياته لتتناسب مع هذه النظريات والفرضيات.
وكل من دخل إلى التفسير وله أصل، فإن أصله هذا سيؤثر عليه، وسيقع في التحريف، كما وقع التحريف عند المعتزلة الذين جعلوا العقل المجرد أصلاً يحتكمون إليه، وكما وقع لغيرهم من الطوائف المنحرفة.
والذي يدل على وقوع الانحراف في هذا الاتجاه الحرص الزائد على إثبات حديث القرآن عن كثير من القضايا التي ناقشها الباحثون التجريبيون.
5 ـ إن كتاب الله أعلى وأجل من أن يجعل عرضة لهذه العقول التي لم تتأصل في علم التفسير، فأين هم من قول مسروق:» اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله «.
6 ـ إنَّ في نسب الإعجاز، أو التفسير إلى» العلمي «فيها خلل كبير، وأثر من آثار التغريب الفكري، فهذه التسمية منطلقة من تقسيم العلوم إلى أدبية وعلمية، كما هو الحال في المدارس الثانوية سابقًا، وفي الجامعات حتى اليوم، وفي ذلك رفع من شأن العلوم التجريبية على غيرها من العلوم النظرية التي تدخل فيها علوم الشريعة.
وإذا كان هذا يسمى بالإعجاز العلمي، فما ذا يسمى الإعجاز اللغوي، أليس إعجازًا علميًا، أليست اللغة علمًا، وقل غيرها في وجوه الإعجاز المحكية.
لا شكَّ أنها علوم، لكنها غير العلم الذي يريده الدنيويون الغربيون الذين أثروا في حياة الناس اليوم، وصارت السيادة لهم.
ومما يؤسف له أن يتبعهم فضلاء من المسلمين في هذا المصطلح دون التنبه لما تحته من الخطر والخطأ.
7 ـ ومما يلاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي عدم مراعاة مصطلحات اللغة والشريعة، ومحاولة تركيب ما ورد في البحوث التجريبية على ما ورد في القرآن، ومن الأمثلة على ذلك أن القرآن يذكر عرشًا وكرسيِّا وقمرًا وشمسًا وكواكب ونجومًا وسموات سبع، من الأرض مثلهن ... الخ
ومصطلحات العلم التجريبي المعاصر زادت على هذه، وذكرت لها تحديدات وتعريفات لا تُعرفُ في لغة القرآن ولا العرب، فحملوا ما جاء في القرآن عليها، وشطَّ بعضهم فتأوَّل ما في القرآن إلى ما لم يوافق ما عند الباحثين التجريبين المعاصرين.
فبعضهم جعل السموات السبع هي الكواكب السبع السيارة، وجعل الكرسي المجرات التي بعد هذه المنظومة الشمسية، والعرش هو كل الكون.
وآخر يجعل ما تراه من نجوم السماء التي أقسم الله بها وأخبر عن عبوديتها، وجعلها علامات؛ يجعل ما تراه مواقع النجوم، وإلا فالنجوم قد ماتت منذ فترة. إلى غير ذلك من التفسيرات الغريبة التي تجيء مرة باسم الإعجاز العلمي، ومرة باسم التفسير العلمي ... الخ من المسميات.
وكل هذا الجهد إنما هو لأجل التوفيق بين ما يسمونه علمًا، وبين ما جاء في القرآن.
ولقد كان لهذه القضية سلفٌ كالفلاسفة الذين عاشوا في ظلِّ الإسلام حين أرادوا أن يوفِّقوا بين ما في القرآن وبين ما في الفلسفة مما يسمونه حقيقة.
8 ـ إنَّ بعض من نظَّر للإعجاز العلمي، وضع قاعدة، وهي أن لا يفسَّر القرآن إلا بما ثبت حقيقة علمية لا تقبل الشكَّ، لئلا يتطرق الشك إلى القرآن إذا ثبت بطلان فرضية فسِّرت بها آية.
وهذا القيد خارجٌ عن العمل التفسيري، ولا يتوافق مع أصول التفسير، وهو قيد يلتزم به مقيِّده ـ وإن لم يكن في الواقع قد التزمه كثيرون ممن بحث في هذا الموضوع ـ ولا يُلزِمُ به المفسِّرَ؛ لأنَّ التفسير أوسع من الإعجاز.
¥