في البداية، تعاملت مع الأمر على أنه سلوك المغلوب أمام الغالب، أي كما سيتعامل أي مغلوب أمام أي غالب، كظاهرة حضارية معروفة، ومشخصة منذ عصر إبن خلدون على الأقل، والذي راقب وحلل ما نراه اليوم، من سلوكيات النفسية المهزومة التي تعبر عن نفسها في مظاهر شتى، مثل إرتداء الملابس التي يرتديها المنتصر، وتبني لكنته، وإنتشار تسريحات الشعر المميزة له ..
ذلك كله رآه إبن خلدون، ورأيناه نحن، وسيراه أي مراقب لأي مهزوم أمام أي منتصر ..
***********************
ولأن تقليد المظاهر، هو مجرد سلوك سطحي يخفي وراءه دوافع وحوافز عميقة .. فقد لاحظت أن الأمر اعمق حتى مما يبدو للوهلة الأولى ..
كان الأمر أعقد بكثير من مجرد فخ هزيمة نفسية يسقط فيها المهزوم بشكل عابر أو غير عابر ..
كان في الأمر هذا التقليد الذي شخصه إبن خلدون، بما كان فيه بعض المازوشية تجاه المنتصر السادي ..
.. لكن، حتى هذا كان سيبقى ذلك قاصراً عن عمق الأمر ..
*********************************
كان أول ما شدني الى عمق الظاهرة، أنها لم تقتصر على من كانت مظاهرهم توحي بأنهم سيرحبون بالإحتلال، أي أنهم ليسوا ممن تعودنا على وصفهم بالمتأمركين مظهراً ..
على العكس من هذا، كان هناك، عبر النقاش، والحوار الأصم، مظاهراً لتدين، حجاب ولحى .. (وكان هناك أيضاً مظاهر تأمرك طبعاً) لكن كلها إصطفت معاُ، في التأييد للإحتلال ..
.. وكانت مظاهر التدين هذه، غير خالية من إلتزام حقيقي بالشعائر والعبادات، أي أن الحجاب هنا، لم يكن مجرد غطاء للشعر، كما أنه لم ينتج عن واقع إجتماعي فرض قسراً، بل حدث طوعاً ورغبة في التقرب لله سبحانه وتعالى ..
كذلك الأمر مع بقية مظاهر التدين .. لم يكن أي منها قسراً ..
*******************
- وقبل أن يتبادر أي تفسير طائفي يصنف المتدينين في طائفة معينة، ويلقي بعبء التفسير على مشجب الطائفية، أحب أن أشير الى أن الأمر لا علاقة له بطائفة بعينها، فقد رأيت وسمعت من الجميع.
******************************
.. وعندما يكون الأمر هكذا عند بعض نخب المتدينين، فإنك تعلم حتماً أنه أوضح عند من هم غير المتدينين، من نفس النخب.
*************
سيكون هناك كلام جميل عن الديمقرطية وفرصتها السانحة، وآخر عن الحرية، وكلام أجمل عن حقوق الإنسان، وكل هذا جميل لا يمكن لأحد أن يشكك في شرعيته وشرعية المطالبة به، لكن مع مرور الوقت، ستكتشف أن هذه الشعارات شئ والترحيب بأمريكا وبمشاريعها شيء آخر، صحيح أن الترحيب بأمريكا يتكيء على تلك الشعارات، لكن تخلي أمريكا عن هذه الشعارات او تطبيقها لم يكن يدفعهم للتخلي عن امريكا، إنما الى إيجاد التبريرات، والمناورات، والمقارنات، التي ستجعلهم متمسكين بأمريكا.
كانت علاقتهم بأمريكا، في عمقها وجوهرها، بعيدة عن تلك الشعارات، بعيدة عن ذلك المنطق ..
************************
أشدد أنهم ليسوا خونة أو عملاء، كما تعودنا أن نرمي كل من يخالفنا في هذه الأمور تحديداً. أشدد أنهم -في معظمهم- وطنيون على طريقتهم، وأنهم، على الأغلب، لم يتعاملوا قط مع أي أجنبي محتل -على الأقل لم يتعاملوا وجهاً لوجه- بغض النظر عن رغبتهم في ذلك ...
وأكرر أنهم متدينون، وأن مظاهر بعضهم أبعد ما تكون عن التأمرك التقليدي، وأنهم أقرب في بعض الأحيان، الى مظاهر التدين التقليدي ..
ولكن مع ذلك، ورغماً عن ذلك، تراهم، يقفون مع المشروع الأمريكي ..
.. اقر هنا انني لا اعرف رقماً أحصائياً محدداً يوضح حجمهم الحقيقي، ونسبتهم الى بقية قطاعات الشعب ..
لكني أعرف أن (وزنهم النوعي) هو المهم، وليس حجمهم الاحصائي، فهؤلاء يمثلون قطاعاً واسعا بشكل محسوس من الطبقة الوسطى، أي من الطبقة الفاعلة اجتماعياً، والتي يعول عليها في التنمية ...
اذن وزنهم النوعي لا يتحدد بعددهم الاحصائي، أنهم (النخب) -التي- تمارس دوراً إضافيا عبر التأثير على الطبقات الأدنى ثقافياً وتعليمياً، والتي ستقلد بدورها هذه النخب في تطلعاتها وطروحاتها ...
وأستطيع أن أؤكد، أن حجم هؤلاء المرحبين، ضمن النخب المثقفة، كان واسعاً، دون التورط بأرقام غير دقيقة.
¥