وهل تشك إذ فكرت في قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي وقيل بُعداً للقوم الظالمين} سورة هود (44). فتجلى لك الأعجاز , وبهرك الذي ترى وتسمع , أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة , والفضيلة القاهرة , إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض , وأن لم يعرض لها الحُسن والشرف إلا من حيثُ لاقت الأولى بالثانية , والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقر إلى آخرها. " 1هذا وأن ألفاظ القرآن لما فيه من أعجاز ظهر في نظمه وسياق لفظه وصوره الوعظية والبينة , وأعلام التذكير والترغيب.والترهيب ومع كل حجة وبرهان وصفة وتبيان , وكان قد أعجز من أراد أن يأتي بمثله ولو بآية من آيات النصوص القرآنية , ففيه ما قد أبهر عقولاً لنظامه والتئامه وإتقانه وأحكامه.مما أعجز فصحاء العرب أجمع بتحد القرآن ومعارضته , وبتَ الحُكم بأنهم لا يستطيعونه , ولا يقدرون عليه البتة.
وكان من علل ذلك هو أنه " استرعاءهم ما فيه من حلاوة اللفظ , وطلاوة المعنى والتركيب , وعمق ما أشتمل حتى أنه مغدق في جذوره كلما تكشف القارئ عن عمقه رأى ما يصل إليه البشر , وكلما أتجه إلى أعلاه وجد ثمراً شهياً " 1 ففي كتاب الله تعالى ألفاظ اختيرت اختياراً , يتجلى فيه وجه الأعجاز من هذا الاختيار , فهذه الألفاظ نجد أنها تخدم المعاني , وبل وأنها تتبعها وتلحق بها , ونود أن نبين أمراً هاماً للغاية , وهي أن الألفاظ القرآنية والكلمات من سبب الأعجاز , كلا وإنما يكون في تناسق الكلمات وما تسعه من معان واخلية بيانيه بأسلوب مكتمل البيان يلتقي بنغمه وفواصله وصوره البيانية مع الألفاظ المحكمة والمعاني السليمة.وللخطابي رحمه الله المتوفي سنة 388هـ يقول في رسالته ضمن رسائل ثلاث في أعجاز القرآن: " وأعلم أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف , متضمناً أصح المعاني من توحيد له عزت قدرته , وتنزيه له في صفاته , ودعاء إلى طاعته , وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم , وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف , ونهي عن منكر , وإرشاد إلى محاسن الأخلاق ... " 2 فإنك واجد في ترتيب هذه الألفاظ بحكم أنها خدم للمعني , بل وتابعة لها ولاحقة بها , وأن العلم بمواقع المعاني في النفس , علمُ بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق.
البحث الثاني: ظاهرة التكرار اللفظي في القرآن
مما لا ريب فيه أن القرآن الكريم ملئ بظاهرة التكرار في الألفاظ والمواضيع على حد سواء , فكتاب الله تعالى ليس هو مجرد كتاب يقرأ وكفى , وإنما هو كتاب منهاج قويم للعالمين , إذ أنه كتاب تربية لهذه الأمة , ولمن أراد الدخول فيها , والتي هي خير أمة أخرجت للناس , فهل من غرابة في أن يكون القرآن به تكرار في الألفاظ , الجواب لا , فالقرآن هو كتاب تربية وتوجيه , وهداية للبشرية , وأننا كثير ما نحتاج إلى قراءته , بل وحفظه أيضاً , فنحن كل يوم نكرر القراءة , وأثناء ذلك نكرر بعض ذكر الألفاظ , من قصص وغير ذلك مما هو مكرر , فما وجدنا مللاً بل نزداد إيماناً ويقيناً , ثم أن القرآن حين يتكرر فيه لفظ ما , فإن هذا ما هو إلا للتذكير.
وأقرأ قوله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} سورة الذاريات (51)
وقوله تعالى: {فذكر أن نفعت الذكرى , سيذكر من يخشى}. سورة قـ~ (37) وقد تحدث بعض العلماء في الأسباب من وراء هذا التكرار , يقول جلال الدين السيوطي رحمه الله في موضوع ما تكرر نزوله من الآيات ووضع أقوال جماعة من العلماء المتقدمين منهم والآخرين وكان لهؤلاء العلماء أقوال مختلفة لكننا لا نرى إلا ما ذكر وه لما فيه من الصواب ,حيثُ يقول: " صرح جماعة من المتقدمين والمتأخرين بأن من القرآن ما تكرر نزوله قال أبن الحصّار:" قد يتكرر نزول الآية تذكيراً أو موعظة " وذكر أبن كثير من آية الروح وذكر قوم منه الفاتحة , وذكر بعضهم منه قوله تعالى: {ما كان للنبي والذين أمنوا .. } الآية وقال الزركشي في البرهان:" قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه وتذكيراً عند حدوث سببه خوف نسيانه " 1ويقول محمد قطب في كتابه (دراسات قرآنية):" قليل جداً من الآيات أو من العبارات هي التي وردت بنصها أكثر من مرة في القرآن , في سورة التوبة آية (73) وفي سورة
¥