تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الأولى: من لهُم بالحديث عناية وتخصّص، في تمييز صحيحه من سقيمه، الموجب للمعرفة برواته من تمييز المقبول والمردود، لكن ليس لهم حظٌ من علوم أصول الفقه، ولا مراس لفروعه، فهؤلاء لا يقدر أحدهم أن يستنبط ويجتهد؛ لفقْده آلةَ النَّظر في الأحكام.

فلتتّق الله طائفة تسلّقت جدار الفقه، حيث لم تأته من بابه، ولا أعطيت الإذْن من بوّابه، فحظُّ مثل هؤلاء فقء العين حتّى لا تنظر إلى ما لا يباح، وفي أهل زماننا من هؤلاء خلق، عافى الله العلم منهم.

والثانية: من لهم اشتغال بالفقه، ومعرفةٌ بطرقه وأصوله، وفهم لدلالات النّصوص ومعانيها، ولكنّهم لا يميّزون بين رواية مقبولة ومردودة، فترى أحدهم يبني الأحكام على ضعيف الأخبار، بل على ما لا أصل له وباطل من الرّوايات؛ لأنّه لا يدري الصّحيح من السّقيم، فهذا حين يفرض على النّاس شيئاً أو يحرّم عليهم، وكان قد بنى على رواية لا تصحُّ، فقد نسب إلى الدّين ما ليس منه، وأورد الحرج على المكلّفين فيما أتاهم به من حُكم بناه على غير أساس، فكم يحمل على كاهله من حرج؟! بل مثل هذا لا يُدرى ممن علمِه في التّحقيق ما بُني على دليل صحيح وما بُني على غيره، وهو نفسه لا يعرف ذلك.

قال علي بن الحسن بن شقيق المرْوزيّ (وكان ثقة): سمعت عبد الله (يعني ابن المبارك) يقول: " إذا ابْتليتَ بالقضاء، فعليك بالأثر "، قال عليّ: فذكرته لأبي حمزة محمد بن ميمون السّكريّ، فقال: " هل تدري ما الأثر؟ أن أحدّثك بالشّيء فتعمل به، فيقال لك يوم القيامة: من أمرك بهذا؟ فتقول: أبو حمْزة، فيُجاء بي، فيقال: إنّ هذا يزعم أنّك أمرته بكذا وكذا، فإن قلت: نعم، خلّي عنك، ويقال لي: من أين قلت هذا؟ فأقول: قال لي الأعمش، فيُسأل الأعمش، فإذا قال: نعم، خلّي عنّي، ويقال للأعمش: من أين قلت؟ فيقول: قال لي إبراهيم، فيُسأل إبراهيم، فإن قال: نعم، خلّي عن الأعمش، وأخذ إبراهيم، فيقال له: من أين قلت؟ فيقول: قال لي علقمة، فيُسأل علقمة، فإذا قال: نعم، خلّي عن إبراهيم، ويقال له: من أين قلت: فيقول: قال لي عبد الله بن مسعود، فيُسأل عبد الله، فإن قال: نعم، خلّي عن علقمة، ويقال لابن مسعود: من أين قلت؟ قال: فيقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قال: نعم، خلّي عن ابن مسعود، فيُقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: قال لي جبريل، حتى ينتهي إلى الرّبّ تبارك وتعالى، فهذا الأثر، فالأمر جدٌ غير هزل؛ إذْ كان يشفي على جنّة أو نار، ليس بينهما هناك منزلٌ، وليعْلم أحدكم أنّه مسؤولٌ عن دينه وعن أخذه حلّه وحرامه ".

نعم، لا حرج أن تستعين الطَّائفتين ببعضهما، فـ"ربَّ حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه "، لكن أن يستقلَّ كلٌّ بنفسه فيأخذ بالنَّصيبيْن وهو لا يفهم اختصاص الآخر، فهذا من الجِناية على العلم.

والكامل من وفقه الله ليضْرب بنصيب هؤلاء وأولئك، وهو الواجب فيمن يكون للنَّاس إماماً.

وعلوم الحديث علوم آلة تستعمل للكشف عن السُّنن الصَّحيحة المرويَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نقْل كثير اختلط فيه الغثُّ بالسَّمين، وألَّف فيه من المؤلفات ما يعْسُرُ عدُّه.

وهذه العلوم بدأت في أول أمرها علوماً تطبيقيّة غير مؤصّلة تأصيلاً نظرياً من أجل تقريبها وفهْمها، وتيسير استعمالها، بل دفعت ضرورة تمييز السُّنن الصّحيحة من غير أئمة الأمة في الصدر الأول إلى الاجتهاد بما هدتْ إليه العقول من أجل التحقق من صحة النقل، حتى نما ذلك مع نموِّ الأسانيد وكثرتها، إذ كلَّما بعُد الزمان عن زمن التّلقيّ وهو عهد النُّبوة، فإن الأسانيد تطول، وطولها موجبٌ الزِّيادة في التحري، فصار هذا العلم إلى التَّقنين؛ تلبيةً لما أوْجبته الحاجةُ، على ما سيأتي بيانه في موضعه.

وجرى النّاس من بعْدُ على صياغة قواعد هذه العلوم كما صنعوا في التأصيل لسائر علوم الآلات، كالعربيّة، وأصول الفقه، واستمرّ عند المحقّقين في هذا العلم التَّحرير والتَّقريب والتَّيسير، إلى زماننا، وأكثر العناية فيه كانت في مُصطلحاته، حتى غلب على هذه العلوم تسمية (مصطلح الحديث).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير