ولذلك أخبر الله جل وعلا أنه تولى هذا المقام العظيم بنفسه، فقال في كتابه الكريم: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ)) [النساء:176]، يوم نزلت هذه النازلة برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فتولى الله جوابها وحلها ودفع إشكالها، وقد تقلدها رسول الأمة صلى الله عليه وسلم حين بين حلال الله وحرامه، وشرعه ونظامه، فهدى الله به الأمة إلى حكم الله في النوازل والمشاكل، ثم خلفه صلى الله عليه وسلم في هذا الثغر العظيم و المقام الجليل الكريم، أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
فكانوا أئمة هداة مهتدين، يسيرون على نهجه صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً، ثم تبعهم التابعون لهم بإحسان كلما مضى لهم جيل، تبعه على ذلك النهج جيل، فهم على أوضح حجة وأبين سبيل، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى به عاملاً عن عمله، وما زالت الأمة بخير ما قام علماؤها بهذا الثغر، ولا تزال الأمة بخير مادام قد وجد فيها من يبيّن الحلال والحرام، ويفصّل الشريعة والأحكام، يلتزم بذلك المنهج المفضي إلى الجنة دار السلام، ولو لم يكن لفضل الفتوى إلا عظيم البلوى لكفاها شرفاً وفضلاً.
فإن العلماء –رحمهم الله- يقولون: يستدل على فضل الشيء بعظيم أثره في الناس.
فكم أُحيي من سنن المرسلين، وأُميتَ من بدع المضلين، حين تقلد الفتوى أئمة الدين، وكم انتشر من البدع والأهواء، وتنازعت الناس السبل، بسبب ضياع هذا الثغر العظيم.
ولذلك عدّ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرزية العظيمة حين قال: (حتى إذا لم يَبقَ عالمٌ، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) ([88]).
فما أعظمها من مصيبة على الأمة إذا تقلد الجهال هذا المقام، وما أعظمه من شرف، وما أجلّها من نعمة إذا وجد في الأمة العالم البصير الحاذق الذي يعرف حكم الله سبحانه وتعالى في النوازل والمشاكل.
وقد تسفك الدماء، وتنتهك الأعراض بسبب الخلاف في مسألة من مسائل الدين، حين لا يستطيع الناس أن يجدوا من يفصل بينهم في نازلة من النوازل.
فإن النفوس تحب الأموال، وقد تحب المناصب والمراتب، فيتنازع الناس في حلالها وحرامها، فيعيش الناس حياة الفوضى، حتى يأتي ذلك العالم البصير الخبير لكي يخبر عن حكم الله الحكيم الخبير في هذه النازلة، التي لولا أن الله لطف وهيأ لهم هذا العالم لانتهت بالناس إلى شرّ عظيم وبلاء عميم.
فالفتوى لها فضل عظيم. قال العلماء: إن الإنسان إذا تقلد الفتوى أجر على علمها والعمل بها.
فتصور أخي طالب العلم إذا خرجتَ إلى أمتك وقمتَ على هذا الثغر في بلدك، فأصبحت الناس تصدر عن رأيك في الحلال والحرام، يعملون به آناء الليل وأطراف النهار، وأجور امتثالهم لأمر الله في صحيفة عملك.
ولذلك ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن الرجل ينصب له ميزانه يوم القيامة، فتأتي أعمال كالغمامات، فيقول: يا رب .. ما هذا؟ يقال: سنن دعوتَ إليها، كتب لك أجر من عمل بها) ([89]).
فهذا عضل عظيم، وكم من كُرُبات تفرّج بالفتوى بإذن الله عز وجل، يأتيك السائل في ظلمات الليل قد قال لامرأته كلمة لا يدري أهي حلال، فيعيش معها ويبيت معها، أم هي حرام، فلا يستقرّ قراره حتى يسألك فتفتيه عن حكم الله عز وجل.
ويأتيك الرجل قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت في مال لا يدري أحلال فيطعم، أو حرام فيجتنب ويحجم، حتى تبيّن له حكم الله عز وجل في ذلك.
فالفتوى مقام عظيم، ولذلك تشرّف به العلماء وزادوا به شرفاً وفضلاً حينما جاءهم الجليل والحقير والسوقةُ والأمير لكي يعرف حكم الله جلّ وعلا عنده، فالناس كلهم محتاجون إلى المفتي، علت مناصبهم أم نزلت، شرفت مراتبهم أو أهينت، كلهم محتاجون إلى حكم الله تعالى الذي يبينه المفتي، ولذلك تشرف به العلماء، حتى أثر عن بعضهم أنه تقلد الفتوى ما لا يقلّ عن أربعين عاماً، فلما حضرته الوفاة بكتْ ابنته، فقال لها: أتبكي عليّ وأربعون عاماً أوقع عنه، يعني: أتسيئين الظن أن الله يخيّبني وأنا أربعون عاماً أسد ثغر الفتوى لأهل الإسلام.
¥