ومعنى هذ، أن الحكم الشرعي إذا وجد، وثبت بدليله –إيجابياً كان أو سلبياً –فالأصل ديمومته، وبقاؤه واستمراره، ولا تفتقر قوة استمراره هذه، إلى دليل جديد مستقل يُثبتها، لأنها "الأصل" فكانت بذلك أقوى من احتمال التغير الطارئ الذي يفتقر إلى دليل يثبته (20)، لأنه خلاف الأصل.
وفي هذا المعنى يقول الآمدي في الإحكام ما نصه: "إنَّ ظنَّ البقاء أغلبُ من احتمال التغير" (21).
هذا، وإنما قلنا: إن "ظن البقاء" –وهو الاستصحاب –باعتباره ثابتاً أثراً لازماً لعين دليل الوجود، أو مقتضى له، فكان –لذلك –مستغنياً عن دليل آخر جديد يثبته وأنه هو الأصل، بخلاف احتمال تغيّره، لافتقاره إلى دليل طارئ مستقل ومؤثِّر يُثبته، فكان خلاف الأصل، إنما قلنا هذا، لأن "الأصل" دليل ثبوته مستمد من ذاته هو، أي من حيث كونه أصلاً، ولذا كان مستغنياً عن الدليل بنفسه، فثبت ما قلنا، من أن "الأصل البقاء والاستمرار" وإن قطع هذا الاستمرار، هو خلاف الأصل، لافتقاره إلى دليل طارئ مستقل جديد في قطع الاستمرار، أو رفع البقاء.
4 - ظَنُّ البقاء والديمومة، لا يساوي يقين البقاء، فافترقا نوعاً وحكماً:
هذا، و"ظَنَّ البقاء" لا يساوي "يقين البقاء" فإن هذا الأخير، ليس مما نحن فيه، فلا يدخل عنصراً أو نوعاً، من الاستصحاب، وبيان ذلك:
ان قوة استمرار الحكم الشرعي، وديمومة استتباع آثاره الملزمة، يكفي في ثبوتها "غلبةُ الظن بالبقاء" التي استلزمها الظَّنُّ بعدم الدليل الجديد الطارئ المغيِّر، بعد البحث والاستقصاء –كما بينا –ومفاد هذا: أن قوة استمرار الحكم بعد حدوثه وثبوته، إذا ثبت يقيناً -لا ظناً –وبنص صريح، لم تكن هذه "القوة اليقينية" ثابتة بحكم الاستصحاب الظني، في شيء، بداهة، لعدم الحاجة إلى الاستصحاب حينئذ، لأنه آخر الأدلة، فيقدم الاستدلال بالنص الصريح الثابت الذي يفيد يقين البقاء، على "الظن الاستصحابي" الذي يفيد الاستمرار لزوماً ودلالة، فينبغي استبعاده من أنواع الاستصحاب، إذ لا يتحقق في مناطه، كما ترى، ومثال ذلك:
أن الشارع الحكيم، قد ينص صراحة على إنشاء الحكم الشرعي وعلى استمراره أبداً، في سياق النص نفسه، وذلك من مثل تشريع حكم "خَصلَة العقوبة المعنوية" للقاذف، إذا لم يأت بأربعة شهداء، فضلاً عن العقوبة المادية –وهي الجلد –في قوله تعالى: (ولا تقبلوا لهم بشهادة أبداً (. فَقَطع لسان القاذف معنوياً –كما ترى –حكم شرعي أبدي –بالنص الصريح القاطع، ولو تاب القاذف على الراجح –ومعلوم أنه لا يُلجأ إلى الحكم بالظن الاستصحابي بالبقاء، إزاء ورود منطوق النص الصريح بذلك.
تجد هذا أيضاً، في مثل قوله – (-: "الجهادُ ماضٍ إلى يوم القيامة" فكان النص الصريح أقوى استدلالاً، من لازم الدليل.
وعلى هذا، فإن الاستصحاب –في الواقع –ليس دليلاً جديداً، وانما هو إعمالٌ لدليل سابق، أو تقرير له، عن طريق: "التلازم" بين دليل أصل الوجود، ولازمه من البقاء، وبيان ذلك:
أنه إذا كان "ظن البقاء" –وهو الاستصحاب –لازماً وأثراً، أو مقتضى لعين دليل الوجود، فالتلازم قائم بينهما، فحيث يوجد دليل الوجود، يستلزم ظنَّ البقاء، ما لم يوجد المغيِّر، فدل هذا "التلازم" على أن "الاستصحاب" ليس دليلاً مستقلاً، وانما هو –في حقيقته –إعمال للدليل السابق، عن طريق اللزوم، ولا ريب أن الدليل النصي الصريح، أقوى دلالة، وأجدر تقديماً على الدليل اللزومي.
نخلص من هذا، إلى أن الأحكام الشرعية الثابت وجودها، واستمرارها بالنص الصريح، ليست محلاً للاستصحاب أصلاً، ولا هي من عناصر موضوعه، لأن قوة استمرار الحكم، قد ثبتت بمنطوق النص الصريح المثبت لوجوده، بخلاف الاستصحاب، لأن ظن بقاء الشيء، لازم عقلي لوجوده، وليس نصاً صريحاً فيه.
5 - الأحكام العقلية ليست محلاً للاستصحاب أيضاً، إذ ليس مناطه متحققاً فيها، فينبغي استبعادها من أنواع الاستصحاب، وبيان ذلك:
ان "الحكم العقلي المحض" مستمرٌ بآثاره الملزمة، باستمرار قيام دليله، وهو العقل، فما دام "العقل" قائماً ومستمراً، فما يقضي به من حكم، قائم ومستمر كذلك، إذ الحكم لا يتخلف عن دليله، وجوداً وبقاء، واستتباع آثار، أو بعبارة أخرى: إنه باستمرار قيام العقل، يستمر حكمه الذي يقضي به، ما دام لم يرد من الشرع ما يغيره، أو يوجب انقطاعه أو رفعه.
¥