فالشارع –على سبيل المثال –أوجب صلوات خمساً فقط، فيحكم العقل وحده بعدم إيجاب صلاة سادسة (22)، لا يحكم النص الموجب لخمس صلوات، بل بموجب العقل.
على أن الشرع جاء مؤيداً لحكم العقل هذا، إذ لا حكم للعقل وحده في الشرعيات عند الجمهور، خلافاً للمعتزلة الذين يأخذون بمنطق العقل وحده، حتى في الشرعيات، ما دام لم يرد في الشرع ما يخالفه.
جُلُّ ما أقصد إليه، أنه إذا كان "العقل" وحده هو الدليل القائم الذي يحكم بالعدم الأصلي، أو "براءة الذمة" من التكاليف، فلا عمل للاستصحاب إذن في هذا المجال بداهة، لما علمت أن "حقيقة الاستصحاب" إنما يُستدل بها، ويُعمل بحكمها، حيث لا دليل، أي عند قيام الظن بعدم الدليل، بعد البحث، والنظر والتحري عن هذا الدليل المغيِّر، مما يلزم عنه الظن بالبقاء "للتلازم" القائم بين الظن بعدم الدليل، ونشوء الظن بالبقاء، إعمالاً للدليل السابق السالم عن طروِّ المغير، ولكن ما نحن فيه، ليس من هذا القبيل، لأن دليل الأحكام العقلية –وهو "العقل" –قاض بوجودها واستمرارها معاً، يقيناً لا ظناً، ومباشرة لا لزوماً، وأصالة لا تبعاً، فكان "الحكم العقلي" بالعدم الأصلي، أو البراءة الأصلية، أمراً خارجاً عن حقيقة الاستصحاب الأصولي –كما ترى –فينبغي بالتالي، أن يكون هذا النوع من الأحكام مستبعداً من أنواع الاستصحاب، وخارجاً عن مجال تطبيقه، وينبغي أيضاً، ألا يكون فيه خلاف، تحريراً لمحل النزاع.
وفي هذا المعنى يقول البزدوي، وشارح أصوله: "ثم لا خلاف، أن الاستصحاب "حكم عقلي" وهو كل حكم عرف وجوبه (ثبوته) وامتناعه، وحسنه، وقبحه، بمجرد العقل (23) " ويقول الإمام الغزالي: "دل العقل على البراءة الأصلية بشرط ألا يرد سمعٌ مغيِّر (249". أي دليل شرعي.
وجاء في روضة الناظر لابن قدامة، ما يؤكد هذا المعنى، حيث يقول:
"لأن العقل يدل على براءة الذمة حتى يقوم الدليل" (25) أي الناقل عن العدم الأصلي.
6 - الشرع جاء مؤيداً لحكم العقل بالبراءة الأصلية، أو العدم الأصلي، عند انتفاء الدليل الشاغل للذمة بالتكاليف.
قلنا، إن "العدم الأصلي" أو "براءة الذمة" حكم عقلي محض، دل العقل عليه ابتداء، ويستمر هذا الحكم بالعدم، باستمرار قيام العقل الذي حكم به، إذ الحكم يستمر بقيام دليله، ولا يتخلف عنه، حتى يرد دليل من الشرع يغيِّره، ويقطع استمراره.
غير أن الشرع جاء مؤيداً لحكم العقل، وذلك في كثير من آي القرآن العظيم، من مثل قوله تعالى: (فمن جاءه موعظة من ربه، فانتهى، فله ما سلف ((26). ووجه الاستدلال:
أن الآية الكريمة، قد أشار سبب نزولها، إلى أنه لما نزل تحريم الربا، ساورت الناس الخشية من الأموال التي اكتسبوها بالربا قبل التحريم، أي قد خالطتها أموال اكتسبت عن طريق الربا، فبينت الآية الكريمة، أن ما اكتسبوا من الربا قبل نزول التحريم، فهو على "البراءة الأصلية" حلالٌ لهم، ولا حرج عليهم فيه، وعموم الآية شامل لهذه الجزئية وغيرها، مما يدخل في معناها العام، إذ خصوص السبب، لا يقضي على عموم اللفظ.
وكذلك في مثل قوله تعالى: (وما كان لُيِضلَّ قوماً، بعد إذ هداهم، حتى يبين لهم ما يتقون ((27) ووجه الدلالة، أن الآية الكريمة، وإن كانت عامة في لفظها، لكن سبب نزولها خاص، يلقي الضوء على معناها، ولا يقصُر من عموم حكمها، وهو أن النبي (لما استغفر لعمه أبي طالب، لأنه مات مشركاً، واستغفر المسلمون لموتاهم من المشركين، وأنزل الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا، أن يستغفروا للمشركين (ندموا على استغفارهم للمشركين، فبينت الآية، أن استغفارهم لهم قبل التحريم، على "البراءة الأصلية" لا مؤاخذة فيه، ولا مأثم، وينبغي ألا يكونوا في حرج منه، حتى يبين لهم ما يتقون" بورود الشرع المغيِّر، وذلك من مثل مسألة الاستغفار. بعد ورود الشرع بتحريمه، لا قبله، وفي هذا –كما ترى –تأكيد للعدم الأصلي (28).
¥