وعلى هذا، فإن استمرار العدم الأصلي، ثابت بمقتضى العقل، لا بالاستصحاب، والعقل قائم، ومستمر قيامه، فيستمر حكمه به، فلا وجه لاستصحاب حكم العقل، فقول الإمام الغزالي: "وإذن فالاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي، أو شرعي (29) ". قوله فيها نظر! إذ استمرار العدم الأصلي، مستمد من العقل أصالةً، وإلا ما كان حكماً عقلياً –كما يقول –فالعقل هو دليل البقاء أصالة، وإن كان الشرع جاء مؤيداً له، وهذا النوع من الأحكام لا خلاف في استمراره أيضاً.
7 - تأييد الشرع لحكم العقل بالبراءة، لا يلغي حقيقة كون العقل هو دليل استمرار العدم الأصلي، أو استدامة الحكم بالبراءة الأصلية، حتى يرد دليل من الشرع يشغل الذمة بالتكاليف.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا يدخل العدم الأصلي في مفهوم الاستصحاب أصلاً، من قِبَلَ أن "الاستصحاب" إنما يتحقق، حيث دليل غيره يدل على الاستمرار، وهذا يدل عليه العقل، فالدليل قائم، وبتأييد الشرع له، فشرط الاستصحاب لم يتحقق، ولا يوجد الشيء بدون شرطه المعلق عليه وجوده، بداهة.
وأيضاً، لا وجه لما ادعاه الإمام الغزالي، من استمرار الحكم الشرعي باستمرار "السبب" الذي نصبه الشارع أساساً له، حيث ادعى أنه نوع من "الاستصحاب" لأنا أشرنا آنفاً، أن دليل الاستمرار هو "السبب" الذي أقامه الشارع دليلاً وعلة مؤثرة في استمرار حكمه، فالدليل قائم، والاستصحاب إنما يتحقق مناطه إذا كان الاستمرار أثراً لازماً لدليل الوجود، لا لعلة توجب استمراره، ولا لدليل آخر مستقل يؤثر في بقائه، فوجب التمييز!
وعلى ضوء هذا، يمكنك الحكم على قول الإمام الغزالي، في اعتبار استدامة سببه، نوعاً من الاستصحاب، إذ يقول: "ومن هذا القبيل –الاستصحاب –الحكم بتكرار اللزوم والوجوب، إذا تكررت أسبابها، كتكرار شهر رمضان، وأوقات الصلوات، ونفقات الأقارب، عند تكرر الحاجات، إذا فهم انتصاب هذه "المعاني" أسباباً لهذه الأحكام من أدلة الشرع" (30) ".
وعلى هذا، فالملك يثبت للمشتري، ويستمر حكمه، بعقد البيع نفسه –كما بيَّنا –لأن الشارع قد نصب هذا العقد، سبباً لثبوت الملك، واستمراره أيضاً، حتى يسع من شهد عقد البيع لهذا الشخص الذي انتقل إليه الملك بمقتضى هذا العقد في الماضي، أن يشهد له بالملك في الحاضر، استناداً إلى سببه، لا بالاستصحاب، بل يستمر هذا الملك –بحكم العقد –مستقبلاً أيضاً، ما لم يقم دليل طارئ يدل على التغيير، بأن باع المشتري ما اشتراه، وانتقل ملكه إلى غيره، أو وهبه إياه، أو ورثه عنه.
وكذلك، تثبت "الزوجية" بعقد الزواج، وتستمر أبداً، بموجب هذا السبب، وهو "العقد" المبرم في الماضي، إلى أن يقوم الدليل على إنهاء عقد الزواج بالطلاق، وكل حكم أقامه الشارع على "سبب" من عقد أو تصرف –ولو ماديا –إذا فُهم أنه أساس تشريع الحكم، بقي واستمر، واستتبع كافة آثاره، بمقتضى السبب نفسه، لا بالاستصحاب، حتى يظهر الدليل المغيِّر، تجنباً للتخليط بين استمرار الحكم بمقتضى السبب، واستمراره بحكم الاستصحاب.
هذا، وما يقال في "الحكم المطلق" الذي هو مُسبَّبٌ لسببه، هو مقول أيضاً في "الحكم المؤقت" المقيَّد بأجل مسمى في العقد، فإن استمراره إلى أجله ثابت بمقتضى سببه لأنه –كما ذكرنا –مُسبَّبٌ لذلك السبب شرعاً، كعقد الإجارة، فإن حكمه يستمر إلى الوقت المحدد فيه، وينقطع استمراره عند حلول أجله المسطور في العقد، إذ لا يوجد الشيء بعد انتهاء أجله، وهذا الاستمرار، بالسبب المقتضي شرعاً، لا بالاستصحاب.
وما يقال في العقود التي هي أسباب جعلية للأحكام، هو مقول أيضاً في التصرفات من الأفعال المادية، إذا انتصبت شرعاً، أسباباً لأحكام شرعية، فإن إتلاف الزرع على صاحبه، عدواناً، وبغير وجه حق، مثلاً، ينتصب "سبباً" لِشَغلِ ذمة المتلف بالضمان، حتى يؤدي المتلف تعويض ما أتلف لصاحب المال المُتلَف، أو أن يبرئه هذا، من التعويض، وهذا الاستمرار بالسبب لا بالاستصحاب، وهو أمر لا خلاف فيه بين الفقهاء.
8 - الإمام البزدوي يقع في التناقض، إذ تراه يعتبر استمرار الحكم المبني على سبب، استصحاباً، وتارة يعتبر استمراره بمقتضى السبب الذي بنى عليه تشريعه لا بالاستصحاب!.
¥