يشير إلى هذا التناقض، شارح أصول البزدوي حيث يقول: "ثم الشيخ –رحمه الله –ذكر في باب النسخ، أن الشراء –عقد البيع –يثبت به الملك، دون البقاء وذكر ههنا –أي في بحث الاستصحاب –ان الثبات بالشراء ملك مؤبد، وهذا يقتضي أن الشراء يوجب البقاء، كما يثبت أصل الملك، وهذا يتراءى تناقضاً (31)."
وحاول الشارح أن يؤوّل هذين القولين، بما يرفع هذا التناقض الظاهر، ولكنه –للأسف –لم يفلح (32).
ولا ريب، أن قوله: "الشراء يوجب البقاء، كما يثبت أصل الملك" صريح في أن استمرار الحكم بحكم السبب الذي هو الشراء، فهو دليله، وليس الاستصحاب، وهذا لا خلاف فيه.
نخلص من هذا، إلى أنه ينبغي، "تحرير محل النزاع" في الاستصحاب، لنستبعد ما ليس منه، مما لا يتحقق في مناطه، لا صورة ولا معنى، ثم نعمد بعد ذلك إلى ما أورد الأصوليون من أنواع الاستصحاب، لنبين حقيقتها على ضوء من مفهوم الاستصحاب الحق، ثم نستعرض بعد ذلك، آراء الأصوليين في "مدى حجِّيته" وأدلتهم لمناقشتها، وصولاً إلى "الحقيقة العلمية" التي هي ثمرة البحث، والاستدلال الأصولي.
9 - أنواع الاستصحاب عند الأصوليين:
أن الأصوليين قد أوردوا في مصنفاتهم، أنواعاً من الاستصحاب، قد اعتبروها متحققاً فيها مناطه، وآشرنا آنفاً إلى أن بعضاً من هذه الأنواع، لا يندرج في مفهوم الاستصحاب أصلاً، فضلاً عن عدم توفر شروطه فيها، وأقمنا الأدلة على أنها ثابتة ومستمرة بأدلة أخرى، ليس منها الاستصحاب.
وتفصيلاً للبحث، نتناول هذه "الأنواع" التي أوردها الأصوليون على أنها من "الاستصحاب" نتناولها بالبحث، والنقد، والتوجيه، لنبقي منها، ما هو منه حقيقة، لِتحَقّقِ مناطه وشرطه فيه، ونستبعد دون ذلك، توصلاً إلى تحرير محل النزاع وحصر الآراء في مدى "حجية الاستصحاب" فيه، لنبين "منشأ الخلاف" ثم نرجح ما نراه أقوى دليلاً، وأدنى إلى تحقيق "العدل" بين الناس، بإيصال الحقوق إلى أربابها، ورعاية كافة مصالحهم، ورفع الحرج عنهم (33). هذا، ويرى الإمام السرخسي، أن أنواع الاستصحاب تنقسم أربعة أقسام، حيث يقول:
"ثم استصحاب الحال، ينقسم أربعة أقسام:
أحدها: استصحاب حكم الحال مع العلم يقيناً، بانعدام الدليل المغيِّر، وذلك بطريق الخبر عمَّن ينزل عليه الوحي، أو بطريق الحس فيما يُعرف به (34)، وهذا صحيح، قد علمنا الاستدلال به، في قوله تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً ... ".
وأرى أن هذا القسم، ليس من الاستصحاب في شيء، من قِبَلِ أنَّ بقاء الحكم واستمراره، ثابت بالدليل اليقيني، لازماً للدليل اليقيني بالعلم بعدم المغيِّر –لخبر من الوحي، أو بطريق الحس فيما يعرف به، فدليل البقاء –كما ترى –قائمٌ يقيناً، مما لاينبغي أن يكون فيه خلاف، غير أن هذا ليس مما نحن بصدق البحث فيه، لأننا حدّدنا "حقيقةَ الاستصحاب" آنفاً، بأنه استدلال بمظنون البقاء، لازماً للظن بعدم الدليل المغيِّر، بعد بحث المجتهد عنه، ولم يظفر به، وكلاهما ظنٌّ استتبع ظناً، مما لا أثر فيه لليقين.
هذا، وقد أشار الإمام السرخسي، إلى أن بقاء الحكم –في مثل هذه الحال –"معلومٌ ضرورة" أي بداهة، بالدليل اليقيني، حيث يقول: "لأنه لما عُلم يقيناً بانعدام المغيِّر"، وقد كان الحكم ثابتاً بدليل في الماضي، وبقاؤه يستغني عن الدليل، فقد علم بقاؤه ضرورة (35) أي بداهة.
وأما النوع الثاني: فهو استصحاب حكم الحال بعدم دليل مغير ثابت بطريق النظر والاجتهاد بقدر الوسع –أي ظناً –وهذا يصلح لإبلاء العذر (36)، وللدفع، ولا يصلح للاحتجاج به على غيره" (37).
هذا النوع من "الحكم المطلق" الذي لم يقم دليل مستقل يدل على بقائه واستمراره، ولا على زواله، ولا على تأييده بالنص، أو استمراره مقتضى للسبب، كما لم يقم الدليل القاطع الذي يفيد اليقين أو العلم القطعي، بعدم المغيِّر أو المزيل، أقول هذا هو "محل النزاع" في الاستصحاب الذي وقع الخلاف في "مدى حجيته" على ما سيأتي تفصيل القول فيه (38)، من أنه استصحاب لحكم الحال ظناً، بناء على ثبوتها في الماضي، يدلك على هذا، قول صاحب كتاب كشف الأسرار: "فأما إذا كان الحكم ثابتاً بدليل مطلق، غير معترض للزوال، وقد طلب المجتهد الدليل المزيل، بقدر وسعه، ولم يظهر، فقد اختلف فيه" (39) أي في مدى حجيته في نظر الأصوليين.
¥