تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

النوع الثالث: "استصحاب حكم الحال، قبل التأمل والاجتهاد في طلب الدليل المغيِّر".

وهذا النوع ليس من الاستصحاب الذي هو "موضوع البحث" لفقدان شرطه، ولا يوجد الشيء بدون شرطه المتوقف عليه وجوده ولا خلاف في أنه لا يُستصحب.

هذا، وقد علمت أن شرطه، وجوب أن يبحث المجتهد ابتداء عن الدليل المغيِّر، قدر وسعه، ولم يظفر به، فيحصل لديه –نتيجة لذلك –الظنُّ بعدم الدليل المزيل، وقبل ذلك، يكون جاهلاً بهذا، والجهل هنا بتقصير منه (40)، فلا يكون جهله حجة ملزمة لغيره، ولا حجة في حق نفسه، لصيانة حقوقه، بل ولا عذراً، لأن بقاءه لم يُعلَم يقيناً ولا ظناً.

وبيان ذلك: "أن الجهل بالمغيِّر للتقصير في البحث والاجتهاد، لا يحصل معه ظن بعدم هذا الدليل، ضرورة، فلا يحصل بالتالي "ظنٌ بالبقاء" وحيث لا ظن بالبقاء، فلا استصحاب أصلاً، لأن "ظن البقاء" هو جوهر الاستصحاب –كما بينا –وحيث انتفى هذا الظن، انتفى الدليل، فيكن الاستدلال بالاستصحاب في مثل هذه الحال، استدلالاً بلا دليل، وهذا باطل لا يقول به أحد.

النوع الرابع: "استصحاب الحال، لإثبات الحكم ابتداءً، وهو خطأ محض، لأن الاستصحاب هو التمسك بالحكم الذي كان ثابتاً إلى أن يقوم الدليل المزيل، دون إنشاء حكم جديد، وفي إثبات الحكم ابتداء، لا يوجد هذا المعنى، ولا عمل لاستصحاب الحال فيه صورة ولا معنى: (41) هذا في نظر السرخسي، واجتهاد متأخري الحنفية، وستأتي مناقشة هذا الاجتهاد.

وتفسير ذلك: أن هذا النوع الذي يُدَّعى أنه من الاستصحاب، يُثبت حكماً جديداً وحقوقاً مبتدأة للمستصحب المستدل به، أي ينشئ لصالحه حقوقاً على الغير، لم تكن ثابتة له من قبل، على سبيل الإلزام، وهذا معنى قوله: "ابتداء" فهو إذن حجة –عند القائلين به –للإثبات، والاستحقاق، وإلزام الغير، بما لم يكن ثابتاً للمستصحب من قبل، وهذا ما لا يقول به السرخسي، خلافاً لغيره، لعدم تحقق معنى الاستصحاب في هذا النوع المُدَّعى أنه منه، بل هو –في نظر السرخسي –خطأ محض (42)، لأن معنى الاستصحاب، مقصورٌ عنده على "التمسك بالحكم الذي كان قائماً في الماضي، مستتبعاً آثاره التي كانت قائمة، وثابتة في ذلك الزمن، مستصحبة في الزمن الحاضر، ولكن دون أن يقوى على إثبات أحكام جديدة مبتدأة لم تكن ثابتة من قبل، لأن هذا المعنى –في رأي السرخسي ومن معه –يخالف معنى الاستصحاب محل البحث، إذ لا يتحقق فيه مناطه، لا من قريب ولا من بعيد، فلا يكون التمسك بهذا النوع حجة ملزمة للغير في إثبات حقوق، أو أحكام مبتدأة للمستدل به، لم تكن ثابتة له من قبل، وإنما يكون للاستصحاب –في نظره –حجةً مقصور على إبقاء ما كان على ما كان، ودفع من يدعي تغيُّر الحال، حتى يأتي بالدليل المغيِّر، فلا يصلح في إثبات أو إحداث أمر لم يكن، ومثاله التوضيحي: "المفقود الذي غاب، ولا يُدرى مكانه، ولا يعرف أحيٌّ هو أم ميت، لانقطاع أخباره، وكانت حياته معلومة عند غيابه وقبل فقده، يقيناً، فتُستصحب حياته هذه التي كانت قائمة في الماضي، تستصحب إلى الوقت الحاضر، ويعتبر –استصحاباً لهذه الحال –أنه حيٌّ، لغلبة الظن ببقائه، ويكون استصحاب هذه الحال حجة في إبقاء ما كان على ما كان، للمحافظة على حقوقه التي كانت ثابتة له عند فقده، وصياتها فقط، فلا يورَث بادعاء أنه مفقود، ولا تطلق منه زوجته، إذا ما طلبت طلاقها، لغيبته وفقده، إذ لم نقطع بموته مع الظن بالبقاء، بل تحفظ له حقوقه في أمواله، كما تحفظ حقوقه الزوجية، للاحتمال القوي في استمرار حياته، إلى أن يستبين أمره، إما بالعلم اليقيني بموته حساً، أو بحكم القضاء بأنه مات اعتباراً.

غير أنه لا يكتسب –أثناء فقده، وباستصحاب هذه الحال –حقوقاً جديدة لم تكن ثابتة له من قبل، فلو مات أحد أقاربه خلال فترة فقده، لا يرثُه هذا الغائب المفقود، لأن الإرث ينشئ له حقوقاً مبتدأة لم تكن ثابتة له عند غيابه وفقده، والاستصحاب –بما هو ظن البقاء –لا يصلح حجة قاطعة لتوريثه، إذ من شروط الإرث، تحقق حياة الوارث عند موت المورث، وهذا مظنون الحياة والبقاء، فلم يتحقق إذن شرط إرثه من غيره، ليكتسب حقوقاً جديدة مبتدأة، ولا يوجد الشيء بدون شرطه المتوقف عليه وجوده.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير