تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

على أن هذا لا يمنعنا أن نشير إلى طائفة من "البواعث" التي تستهدف تحقيق غايات غير إنسانية، مما أصبح معروفاً بل مألوفاً في السياسة الاستعمارية التي تحدد مسارها نزعات عنصرية رعناء مسرفة غالباً، من مثل مبدأ "السياسة أولاً (18) " وهذا يعني فصل السياسة عن الخلق والقيم، واستئصالها من التفكير السياسي جملة، فضلاً عن أن يكون لها أثر في توجيهه، ذلك لأن المثل الإنسانية العليا ليست في صالح تلك السياسة العدوانية الغاشمة، إذ هي على النقيض مما تقتضيه أصول التشريع السياسي في الإسلام، وغاياته ومثله العليا، لسبب بسيط، هو أن الأحكام التي تتعلق بمبادئ الأخلاق، وتؤصِّل القيم الإنسانية، والمفاهيم الكلية التي تنهض بالمثل العليا، قد امتزجت بالأحكام التي تتعلق بمبادئ التشريع السياسي، وتدبير شؤون الدولة داخلاً وخارجاً، وهذا الامتزاج يستعصي على الفصل، بل الفصل عصيان وخروج عن أحكام الشرع جملة، تجد هذا جلياً في تحديد وظائف الدولة على وجه الإجمال عند الإمام الماوردي (19)، إذ يجعل القيم، والمفاهيم الكلية للأخلاق التي هي قوام الدين، أساساً لسياسة الدنيا، حيث يقول: إقامة الدولة "لحراسة الدين، وسياسة الدنيا (20) " أي سياسة الدنيا محكومة بقيم الدين وبمثله الإنسانية، وهي سياسة معينة قوامها قواعد من العدل المطلق حتى بين الأعداء (21)، والمساواة بين الشعوب في الاعتبار الإنساني، وعصمة الإنسان باعتباره "القيمة الكبرى" في هذا التشريع، والتسامح تجاه المخالف في الدين الذين ينهض بحقه في الجنسية والمواطنة ولاؤه السياسي للدولة في عقد أبدي، مما يورثه التمتع بكافة الحقوق، دون تمييز، بل وجوب البر والإقساط إليه (22) وتحريم الظلم والعدوان والبغي بجميع ألوانه وصوره، ومحاربة "العنصرية" بجميع صورها دون هوادة، باعتبارها –في نظره وفي الواقع- ضرباً من العصبية الجاهلية، وبذلك قضى الإسلام على كافة أسباب الاضطراب العالمي، حين جعل السياسة خادمة للمثل، تؤصلها في المجتمع "البشري" وذلك آية خلود رسالته.

وعلى هذا، أمكن القول بأن ظاهرة امتزاج المبادئ الخلقية، والقيم الإنسانية، بالقواعد التشريعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من خصائص التشريع السياسي الإسلامي وحده، تفرَّد بها من دون سائر الشرائع!!

لذا، ترى الإمام الغزالي، يقرر هذه "الخصيصة الفريدة" في تشريع الإسلام، بقوله: "إن السياسة من أشرف العلوم" ومناط الشرف هو عنصر الدين والخلق والمثل العليا، بلا مراء، لأنها قوام سياسته الرشيدة العادلة، وغاية رسالته، لقوله (: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

هذا، وثمة مبادئ مستقرة في فلسفة السياسة الاستعمارية، ابتدعتها أهواء وبواعث لتحقيق أغراض غير إنسانية، تحركها، وتوجهها، وتحدد مسارها، من مثل مبدأ "فرِّق تسُد" وهو مبدأ العَيث في الأرض فساداً، من إهلاك الحرث والنسل، وسفك للدماء، وإزهاق للنفوس البريئة الآمنة في أوطانها، وتشريد أهلها منها، وتدمير معالم الحضارة مما هو في الواقع تبديد لثمرات الجهود البشرية التي أنتجتها عبر القرون، لتصبح خراباً يباباً، ظلماً وعتواً، بما تملك من ناصية القوة، وأدواتها من السلاح المتطور الفتاك الرهيب، فتظلم وتطغى، وتحطم البنى المعنوية لمن بقي حياً من الأناسيّ، وهو من أبشع صور الظلم والعدوان والبغي في الأرض، تجد تحريم ذلك كله في كثير من آيات الكتاب العزيز، من مثل قوله تعالى: (ولا تَعْثَوْا في الأرض مفسدين (وقوله عز وجل: (وأصْلحْ ولا تتبعْ سبيل المفسدين (وقوله عز شأنه: (ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها (بل ترى هذا الإسلام الحنيف، يَدْلِفُ إلى كَهْف أسرار النفوس البشرية في المداولات السياسية السرية، مما يعتبر من أسرار السياسة العليا في الدولة، ليرشد إلى وجوب أن يكون أساس تلك المداولات وغايتها "الإصلاح بين الناس" بإطلاق، مصداقاً لقوله تعالى: (لا خيرَ في كثيرٍ من نجواهم، إلا من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس (حتى لا يتخذ من جوِّ الخفاء والسريَّة مجالاً لرسم خطط العدوان، أو تدبير المؤامرات.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير