تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولا ريب، أن نَفْيَ "الخيريَّة" عن النجوى، يفيد التحريم في أسلوب القرآن الكريم، لأنه يعادل الشرَّ أو الإثم، يؤكد هذا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا، إذا تناجَيْتُم، فلا تَتَناجوْا بالإثم والعدوان (وهذا بإطلاق شامل للمداولات السياسية السرية، كما ترى.

والواقع، أن أساطين السياسة العنصرية والاستعمارية، أو دهاقنة الهيمنة الدولية، وإن كانوا متقدمين مادياً، من حيث أدوات الدمار المتطورة والرهيبة في هذا العصر بوجه خاص، غير أنهم –في الواقع- غير متحضرين إنسانياً، مما أفقد العالم صمَّام أمنه وسلْمه واستقراره، ولولا الرادع النووي، لشهد العالم كوارث لا يتصورها العقل البشري.

جُلُّ وكدنا هنا، أن نقيم الأدلة الصريحة القاطعة على أن النظرية العامة للتشريع الإسلامي، لا تجعل منه ثمرة للواقع على علاته، ولا هو خاضع له، ولا محكوم به، أو يستجيب له كيفما اتفق، تحت ضغط القوة وعنفوانها، سواء أكان ذلك "الواقع" عرفاً دولياً سائداً، قد اصطنعه المجتمع الدولي نفسه، لأغراض خاصة، مما لا يستند أصلاً إلى المصلحة الإنسانية العليا، وإن صاغه في قواعد ينتظمها القانون الدولي بغية أن تتقيد بها كل دولة في سياستها الخارجية، أم اتخذ مظهر المعاهدات الدولية غير المتكافئة، لتنفيذها كرهاً وعنوة على الصعيد الدولي، فرضها عدوٌّ متسلط، فأبرمت على سبيل القهر والغلبة، تحقيقاً لمكاسب غير مشروعة على حساب الجانب الضعيف، فافتقدت بذلك أصل مشروعيتها، وهو "التراضي الحر الكامل" أو كان محلها غير مشروع، لاتخاذها وسيلة لحمل المعتدى عليه على الرضا بوضع عدوان قائم كرهاً وإذلالاً، أو لاتخاذها الاغتصاب والاستلاب موضوعاً لها، وهذا الموضوع لا يقبل حكم التعاقد شرعاً، لسقوط المشروعية، باعتساف الغاية، أو لعدم قابلية محل المعاهدة لحكمها، لعدم مشروعيته أصلاً، فتبين بما لا يدع مجالاً للشك، أن التشريع محكوم بقانون الغاية، لا بحكم الواقع وتقريره، على ما ذهب إليه بعض فقهاء القانون الوضعي.

الأمر الواقع –في التشريع الإسلامي- مادة للدرس، والتمحيص، والتحليل لمقوماته، وملابساته، وسائر عناصره، وأهدافه، للحكم عليه، لا للاحتكام إليه، أو التسليم به على علاَّته.

إذا كانت "سياسة الأمر الواقع" على الصعيد الدولي مرفوضة في الإسلام قطعاً، لما قدمنا من الأدلة، فإن هذا "الواقع" يعتبر –في نظر الإسلام- مادة للدرس، والتحليل، واستبطان دوافعه، وتبيُّن مقوماته وعناصره، وغاياته، ظاهراً وباطناً، وكذلك سائر وجوه النشاط السياسي الدولي في كافة مواقعه ومجاليه، بخاصَّة، والنشاط الحيوي بعامة، فما كان منها يستند إلى المصالح المشروعة، والمقاصد الأساسية، فهو على سَنَنِ المشروعات، على حد تعبير الإمام الشاطبي، وما كان مبنياً في باطنه وبواعثه ومقاصده على مصالح مخالفة، فهو باطل حتماً، ولا يجوز المصير إليه، والإسلام يقوِّمه، ويوجهه، بل ويزيله إذا كان عدواناً وظلماً، لأن هذا من مهمته الكبرى، وهدفه العام، وإلا فلن تجري شؤون الحياة الإنسانية على استقامة، بل على فوضى وهرج وفوت حياة، إذ ليس بعد العدل إلا الظلم، وليس بعد المصلحة الجديَّة الحقيقية المعقولة إلا المفسدة!

ولا يخفى ما في ذلك من ضمان لتحقيق "ذاتية التشريع" وصون مقاصده أن تنهار، وهي مباني العدل، وموجهاته، بدليل أنها مناط المشروعية، ولا مشروعية حيث لا عدل، وبذلك كان الإسلام واقعياً، ومثالياً في آن معاً.

أما كونه واقعياً، فلأنه يتصل به درساً وتمحيصاً وتحليلاً، واستبطان غاية، وأما أنه مثالي، فلأنه يقوِّم هذا الواقع، ويوجهه الوجهة التي تتفق مع مُثُلِه وقيمه الإنسانية، ومعايير المصلحة والعدل فيه.

فتلخّص أن الإرادة الإنسانية قد تتنكب الغاية واقعاً، أو تخرج على التشريع جملةً، حكماً ومقصداً، أو تعتسف مقصد الشارع من تشريع الحكم في مواقع الوجود، أنانيةً وأثرة، أو استجابة للهوى –وما رأينا كالهوى عابثاً في التشريع- وعندئذ يكون دور التشريع تقويمياً لا تقريرياً، لحماية مقاصده العامة والخاصة، وصوناً لأصالة القيم الخلقية، والمثل العليا، أن تأتي عليها الأعراف والتقاليد التي هي من صنع المجتمع، وإرساءً لمبدأ العدل المطلق، ليستقيم أمر التعامل على سَنَن العدل والنَّصفة، ولتصبح تلك المقاصد كُلِّيُّهما وجزئيُّها –بعد

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير