تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ترجمتها من حيز النظر والتجريد إلى حيز العمل والتنفيذ، أقول لتصبح تلك "المقاصد" التي هي قوام المصالح الجدِّية الحقيقية الإنسانية، أوضاعاً قائمة، تحدد الإطار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تحديداً يتفق وما تقتضيه الأسس العامة التي يضعها التشريع نفسه، ليكون بمثابة "صُوىً" أو "معالم كبرى" تشكل "النظرية العامة" للتشريع، بما تنهض به من "النظام الشرعي العام الثابت" الذي تتجلى فيه إرادة المشرع الحقيقية في "وحدة التشريع" واضحة جلية، مما يطلق عليه "الأساسيات" أو "المُحْكَمات" التي لا تقبل التأويل أو التغيير، لوضوحها وصراحتها، صوناً لذاتية التشريع وخصائصه، وقيَمِهِ المحورية التي تدور عليها أحكام الشريعة جملةً وتفصيلا كما ذكرنا، فكانت بذلك ثابتة في أصولها، متطورة في فروعها، على ما سيأتي بيانه، ولا يستقيم أمر المجتمع البشري كله، دولاً، وأمماً، وشعوباً، إلا على هذا الأساس، لقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً، فاتبعوه (وقوله سبحانه: (أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون (.

ينهض بمعقولية التشريع الإسلامي، كون مقاصده العليا، وأصوله العامة، وأحكامه التفصيلية، مغياة بمصالح جدية حقيقية وكلية، لا تتنافى وأصول التعقل الإنساني بوجه عام، فضلاً عن العقل العلمي المتخصص في موضوعها، مما يثبت أن التشريع الإسلامي والعقل الإنساني صنوان متلازمان، لا غنية لأحدهما عن الآخر، على ما يقرره الإمام الغزالي (23) وغيره من علماء الأصول.

لو لم يكن التشريع مغيّاً بمصالح حقيقية غير موهومة، وجدية ذات أثر فعال في جلب المنافع ودرء الأضرار والمفاسد، وكلية بحيث تكون عامة، لا يختص بها قبيل دون قبيل، أو أمة دون أخرى، أو طبقة دون غيرها من الطبقات، بحيث تصبح امتيازاً لها من دون الناس، دون مسوِّغ، أقول لو لم يكن التشريع الإسلامي بهذه المثابة، لفقد عنصر "معقوليته" ولاستحال عليه تكوين قناعات المكلفين بعدالته أو بجدواه، أو بعبارة أخرى، لكان العبث أو التحكم، وكلاهما لا يتصور وقوعه في التشريع الإسلامي بوجه خاص، وليس من المفروض ولا من المقبول أيضاً أن يقعا في تشريع وضعي غيره.

أما العبث، فلا يشرَّع، لخلوه عن الفائدة، ولمناقضته للأصل العام الذي قام عليه التشريع كله، وهو أن "الأحكام معلَّلة بمصالح العباد" أي مُغيَّاة بها، ومفسّرة في ضوئها، ومبنية على أساسها، تشريعاً نظرياً، وتصرفاً عملياً، -كما بينا- وهو أصل يقيني ثابت بالإجماع، لثبوته أولاً بالاستقراء من نصوص التشريع نفسه كتاباً وسنة، هذا فضلاً عن أن "العبث" في شِرعة الإسلام، منافٍ "للحكمة الإلهية" من إنزال الشريعة، بل إنزال الشرائع السماوية كافة، وإرسال الرسل، لقوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط (والقسط هو العدل، والعبث ينافيه، وهو ما أفصح عنه أئمة المحققين من الفقهاء من مثل ابن تيمية حيث يقول: "كل ما خرج من الحكمة إلى العبث فليس من الشريعة" وأيضاً "العقد" وهو من أكبر الأدوات في النظام التشريعي، لتبادل المنافع والأموال، إذا لم تترتب عليه فائدة جديدة لعاقِدَيْه، كان باطلاً، لأن تحصيل العقد لفائدة مبتدأة لم تكن حاصلة من قبل، شرط للانعقاد، نفياً للعبث في التعامل، فكيف إذا خلا عن الفائدة أصلاً؟ أو كان محله محرماً غير مشروع؟؟

مناط المشروعية في الحق –وهو المعنى الاجتماعي فيه- ينعكس على "مفهوم العقد" عند التحقيق، إذ المشروعية أساسها العدل، والعدل لا يتجزأ، ولا تناقض في شرع الله ورسوله، فيغدو "العقد" على هذا النظر، واقعة اجتماعية، لا تعاقداً فردياً محضاً، إعمالاً لسلطان الإرادة المطلق، لأن هذا أثر من آثار الفردية في المفهوم الذي يستوجب الإطلاق في التصرف، في الفلسفة الفردية، وهو ما لا يقره الشرع بحال، لسقوط المعنى الاجتماعي فيه، مما يفسح المجال للعبث، والتحكم، والاستغلال، ومنافاة الصالح العام، أو اختلال "التوازن" في اقتصاديات العقد، بظرف طارئ قد لا يكون للمتعاقدين يد في إحداثه.

لا يتسع المجال لبحث هذا كله وتفصيله، ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى تلك المفاهيم والأصول التشريعية الإسلامية الثابتة بالاستقراء، بإيجاز شديد.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير