تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن المبدأ العام الذي يقوم عليه "العقد" في الإسلام، مشتق من المبدأ الذي يقوم عليه مفهوم الحق فيه، فكلاهما قائم على أساس اجتماعي، وأخلاقي، وإنساني، وتعالَجُ الناحية الاقتصادية في العقد- باعتباره من أعظم أدواتها أثراً، وأشدها احتياجاً إليه في تبادل المنافع والأموال –في ضوء ذلك كله.

وقد اشتق الإمام الشاطبي "جهة التعاون" مبدأ عاماً –بوجهيه الإيجابي والسلبي- حاكماً على التشريع كله، بحيث تقيد به الأوامر والنواهي الواردة في الشرع بما لا يخالف أو يناقض مقتضى ذلك المبدأ الهام (24)، لقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (وهو –بوجهيه الإيجابي والسلبي- يوجب التكافل في التعامل، بل وفي جميع وجوه الحياة، وهو أصل مجمع عليه.

وهذا المبدأ أخلاقي في المقام الأول، غير أن الأصوليين والفقهاء، قد أعملوه قاعدة تشريعية عامة ملزمة في التعامل، ولم يتركوه لمحض اختيار المتعاقدين أو غيرهم. فهو يوجب على المدين الوفاء بالعقد خلقاً وديناً وشرعاً ملزماً، ولكنه يوجب في الوقت نفسه على الدائن ألا يتمسك بكافة مزايا العقد حتى في الظروف القاسية والأزمات الخاصة والعامة، لأن هذا لا يتفق ومبدأ "التعاون (25) " فضلاً عن أنه انتهاز لسوانح الفرص، واستغلال الأزمات، وإلا فلم حرم الاحتكار مثلاً؟ وهو في الأصل عقد بيع وشراء، وتصرف في حق الملك، ولم حرِّم بيع المضطر وشراؤه، وبيع المسترسل عديم الخبرة، حتى وصف بأنه ربا، والحرمة ليست منصبة على أصل البيع، لأنه حلال "وأحل الله البيع" ولكنه منصب على استغلال عدم الخبرة، أو الاضطرار، وهي ناحية ضعف في المشتري، بديل أن يكون الموقف الأخلاقي تجاهه تبصيره ونصحه وتوعيته بالثمن، والترفع عن غبنه، إعمالاً لمبدأ التعاون ومبدأ النصيحة في الدين!!

وقد تطغى إرادة أحد المتعاقدين الأقوى اقتصادياً، على الآخر، فيكون قبوله للعقد –في مثل هذه الحال- ظاهرياً لا رضاً حقيقياً، لمكان الاضطرار، كما هو واقع ومشهود وقت الأزمات.

هذا، ولماذا أجاز الحنفية "فسخ الإجارة للعذر" وهو الظرف الطارئ الذي يصبح تنفيذ العقد معه مرهقاً للمدين بسبب لا يد له فيه؟؟ وبات يهدده بضرر فادح لم يكن قد التزمه بالعقد أصلاً، بل نشأ الضرر البيّن عن هذا الظرف الطارئ؟؟

وإذا نظرنا إلى ما قدمنا آنفاً، من أن للحق "وظيفة اجتماعية" في التشريع الإسلامي، بما أقمنا من الأدلة، كان هذا المفهوم "للعقد" تطبيقاً لتلك الوظيفة، فيتطابق الحق والعقد، مفهوماً وأثراً (26) ودوراً.

وقد التفت إلى هذا المعنى، الإمام ابن تيمية، فقرر أن "لا بد في العقد من رضا المتعاقدين، وموافقة الشرع (27) " فليس العقد إذن شريعة المتعاقدين بإطلاق في نظر الإسلام، نفياً للاستغلال والعبث بالمقدرات، أو التحكم بسلطان الإرادة المطلق.

وأما "التحكم" –وهو عدم المعقولية الذي يستلزم مجرد التسلط- فهو منتفٍ في الشرع، ومحرم قطعاً.

أما كونه منتفياً في الشرع، فلأنا لم نجد في الشرع حكماً واحداً في التعامل غير معقول المعنى، أو غير مفضٍ إلى مصلحة معقولة مقصودة هو مفسر بها، ومبني على أساسها، إذ الأصل التعليل كما قدمنا.

وأما أنه محرم شرعاً، فلأن "التحكم" لا يعدو كونه مستشرفاً مجرد إخضاع المكلفين تحت سلطان التكليف، دون إمكان العثور على وجه معقول – ينهض بتفسيره لنفعهم أو صالحهم، وهو ما تواترت النصوص على عكسه (28)، بالأصل العام المجمع عليه، كما قدمنا. وأيضاً لو كان "تحكمياً" لانتفى كون تنفيذه طوعياً، يصدر عن قناعة ورضا، ومعلوم أن "مبدأ الرضائية" أصل عتيد في صحة العقود والمعاملات، بل وفي حل انتفاع كل من المتعاقدين بمال الآخر شرعاً، كما هو مقرر ومعلوم، بل "الحرية" هي أصل الاعتقاد، إذ لا إكراه في الدين "فكان التحكم منتفياً ومحرماً في الشرع أصلاً، عقيدة ومعاملة.

وأيضاً "التحكم" –بانتفاء "أصل المعقولية" فيه- ضرب من التسلط القاهر الذي يأباه الإسلام أشد الإباء، بل يحاربه، بما هو "دين العزة" وشرعة "العدل والإنصاف".

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير