العدل فيه، فلا يُقَرُّ أمرٌ واقع أو عرف سائد أو معاملة دون أن يوزن كل أولئك بمعيارها، فكان ارتباط الاجتهاد بالغاية وثيقاً، لأنها وزان المشروعية.
على أن هذه "الغاية" قوامها أمران: "المعقولية" و "معطيات الخبرة العلمية المتخصصة في موضوعها" وليس بعد "المعقولية والعلم" شيء يبتغى، يرشدك إلى هذا، أن الإمام مالكاً –رحمه الله- قد اشترط – فيما اشترط- في "المصلحة" التي يبنى عليها الحكم، فيما لم يرد فيه نص أنها "إذا عُرضت على العقول تلقتها بالقبول" حتى إذا رفضتها العقول كانت غير مشروعة، لتخلف شروط المعقولية.
هذا، والمقصود: العقول العلمية المتخصصة لا العامية بداهة، إذ العامي لا رأي له ولا خبرة، ولو تبين فيما بعد أن رأيه صواب، إذ لم يكن منشؤه العلم ولا الخبرة العلمية، وأما إن كان رأيه خطأ، فالأصل فيه الخطأ.
فإذا تلقتها العقول بالقبول، كان ذلك قرينة على مطابقتها مقتضى العلم والحكمة، ولا يناكر الشرع مقتضى العلم، وإلا ما كان لفريضة طلب العلم بإطلاق وجه يفسرها، كما لا ينبغي لعاقل أن يقيم الحكم على غير ما يقضي به العلم، ألا ترى حكم الشرع في "الوباء" مثلاً، إذا انتشر في بيئة معينة، فإنه يقتضي ألا يخرج منها أو يدخل إليها أحد، لمصلحة الوقاية منه، حَجْراً صحياً، لكن من الذي يقرر أن ثمة "وباء" حقيقة، إنهم أولو الخبرة من الأطباء، فكان موضوع الحكم الشرعي إذاً عِلْماً، يعتمد الخبرة في تبينه، ثم على أساسه يكون الحكم الشرعي سلباً أو إيجاباً، تبعاً لوجود الوباء وانتفائه، وإلا كان الظلم في تقييد حرية الناس في تنقلهم، دون موجب يسوغه.
هذا، ومما يؤكد "معقولية" "المصلحة" في التشريع الإسلامي، أنها تفتقر دائماً إلى التصرف العقلي في تبينها، لأنها عنصر عقلي خارج عن منطوق النص غالباً، وهذا هو الاجتهاد بالرأي من أهله، وإن كانت داخلة في منطقه التشريعي، إذا لم يكن منصوصاً عليها صراحة، أو متبادرة من ظاهر المعنى اللغوي دون اجتهاد، وهذا قليل في الشرع نسبياً.
على أنه لو قصد عرضها على أهل العقول الراجحة، لما انتقص ذلك من "معقوليتها" شيئاً، وهنا تبدو صلة "العلم والعقل" بمضمون الحكم الشرعي أو مُتَعَلَّقِهِ، والعلم في تقدم مضطرد، والمصالح متكاثرة مستجدة، والعلم أو المعقولية شرط أساسي يتوقف عليه اعتبار المصالح المتجددة، مبنى للأحكام، على ما قرره الإمام مالك وغيره، فكان هذا دليلاً قاطعاً على عنصر "التقدم" في تشريع الإسلام، بتقدم "العلم" نفسه الذي هو شرط أساسي في اعتبار كافة المصالح شرعاً، مهما تجددت، وتعاور الناسَ الزمنُ، أو بتقدم العقل وارتقائه بتطور العلم.
هذا، وقد أشار الإمام الغزالي إلى هذا المعنى، قاصداً بالعقل، العلم، أو الخبرة العلمية المتخصصة من أهلها بقوله: "وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع (30)، واصطحب فيه الرأي (31) والشرع، وعلم أصول الفقه من هذا القبيل (32)، فإنه يأخذ من صَفْو الشرع والعقل، سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد (33) الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد (34) ". وهذا بيِّن في أن الشرع والعقل صنوان متلازمان، وهو ما أكدناه آنفاً.
هذا، ومما يؤكد كون "المصلحة" الواقعية أو المتوقعة، وهي غاية الحكم –إذا ما استوفت شرائط اعتبارها، مبنى للحكم، ولا سيما في الوقائع المستجدة، والظروف المتطورة –ما صرح به الإمام ابن القيم حيث يقول: "فحيثما وجدت المصلحة، فَثَمَّ شرع الله ودينه" ولا جرم أن شرع الله ودينه هو "العدل" بعينه!
وعلى هذا، فالعدل في الإسلام أمر واقعي محسٌّ مدرك يتمثل في "المصلحة المعقولة" التي هي غاية الحكم، وبذلك تمكنت "المعقولية" العلمية في أصول ومباني الأحكام الشرعية، فكان الاجتهاد بالرأي في الإسلام وثيق الصلة بمفهوم العدل، بل لا يتصور الإسلام بلا اجتهاد في كل عصر، لتجدد الوقائع والأحداث، وتبدل الظروف، إلا إذا تصورنا تجريد الحكم عن مبناه من المصلحة والعدل، وهذا محال، ولأن الاجتهاد بالرأي تَعَيَّن وسيلةً لما يعرف به العدل، وما به يتحقق، والمصلحة هي الغاية، والحكم وسيلتها، فكان قانون الغاية هو المهيمن على الاجتهاد والبحث التشريعي كله، لأنه يتضمن معايير المشروعات من الوقائع والأحداث والظروف الاجتماعية
¥