تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المتغيرة، فكان ميزاناً للتقويم، وليس قانوناً للتقرير، ومن هنا كان حاكماً على الواقع، وليس محكوماً به، كما قدمنا، وهذا بيِّن.

الثالث: إن المثل العليا، والقيم الإنسانية، والمبادئ الخلقية الثابتة التي تعتبر من مدركات الحاسة الفطرية قبل أن تلتاث بمخلفات البيئة، أو بالعوامل المؤثرة من الأعراف والتقاليد الموروثة، أو التيارات المتطرفة الوافدة التي تقوم على أصول يعتبرونها حضارية وهي مناكرة لأصول الإسلام، أقول تلك المبادئ الخلقية التي تعتبر من مدركات الحاسة الفطرية النقية في نظر هذا التشريع –وهي ما يطلق عليها "البصيرة" لقوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره (- أقول تلك المبادئ الخلقية، قد مكَّن لها الإسلام في تشريعه، باعتبار أنه "دين الفطرة" مصداقاً لقوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيِّم (.

والفطرة إذا أطلقت شملت مقوماتها في الظاهر والباطن، كَمَلاً، أي جسداً وعقلاً ووجداناً وطاقات وغرائز وإرادة.

هذه المثل والقيم والمبادئ، ليس لها وجود، ولا ينبغي أن يكون لها أثر عند أصحاب المذهب التقريري –كما أشرنا- فلا ثبات لها، ولا أصالة –في نظرهم- لأنها خاضعة للتغير، والتشريع عندهم خاضع للواقع، فالواقع هو الذي يصوغ التشريع في اعتبارهم، وليس التشريع هو الذي يصوغ الواقع على عينه، وهذا على النقيض من التشريع الإسلامي الموحى به، كما ترى، لأن الإسلام جعل للمبادئ الأخلاقية والمثل الإنسانية الأثر البالغ في تقويم الإرادة وتوجيهها، بتطهير البواعث النفسية، بل لا تجد حكماً شرعياً واحداً في الإسلام، ألا ويستند أساساً إلى مبدأ خلقي، ينبع منه، أو يتأيد به، أو يستهدف قيمة إنسانية عليا، أو مثلاً أعلى خالداً يسعى إلى تحقيقه أو الاقتراب منه، وإلا فما معنى قوله (: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"؟.

-يرشد إلى هذا أيضاً، ويؤكده، أن "الأصول الدينية" النابعة من العقيدة نفسها، باعتبارها ميزان الخلق والمُثل، والعامل الفعال في ترسيخها وتعميقها في النفس الإنسانية، تجدها ممزوجة بالقواعد التشريعية، كما أسلفنا، من الرحمة، والبر، والإيثار، والوفاء، والمروءة، والعفو، والإحسان، والعفة، والصدق، والتسامح في التعامل، قضاء واقتضاء، وغير ذلك من الفضائل، وجماع ذلك كله، قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان (وعلى هذا، فالصفة الدينية في التشريع الإسلامي ميزة كبرى قد أكسبته الخصائص الآتية:

أولاً: قد مكنت للمثل العليا في هذا التشريع، وأصَّلت فيه مفاهيم الأخلاق، والفضائل، فكان لها منزع في التشريع، وهي قيم إنسانية خالدة على الدهر، يتسامى بها إلى عليا درجات الكمال الإنساني، بما هي أصول الحضارة الإنسانية الحقة.

ثانياً: أورثته خصوبة فائقة، ومرونة عجيبة، في مواجهة الوقائع المستجدة، وذلك بإمكان تحويل ما يفيض فيه من تلك القيم والمثل إلى قواعد تشريعية ملزمة، تفرغ في نظام آمر، مؤيَّداً بسلطان الدولة إذا رقّ وازع الدين، ألا ترى إلى الإمام أبي حنيفة، كيف كان يجيز للمالك أن يتصرف في ملكه على النحو الذي يشاء، ولو أضرَّ بجاره، ذهاباً منه إلى أن معنى الملك هو الحرية في التصرف، ويذهب من معنى الملك ما يزداد في تقييد حرية المالك؟ غير أنه لم يجز ذلك ديانة وخلقاً ومروءة، ولم يقيده قضاء ملزماً، لغلبة سلطان الدين على النفوس، حتى جاء صاحباه: الإمام أبو يوسف ومحمد، فقيدا المالك في تصرفه في ملكه بما يمنع الضرر الفاحش عن جاره، ديانة وقضاء ملزماً، استثناء من القياس العام، (استحساناً) وعللوا ذلك بالمصلحة، أي بالعدالة، لتغير تصرفات الناس، وعدم مراعاتهم لقواعد الأخلاق والديانة، وبذلك تحول الحكم الدِّياني الخلقي إلى حكم قضائي ملزم، لاقتضاء الظروف المستجدة ذلك.

ثالثاً: أنها جعلت لفعل المكلف، وتصرفه، حكمين: أحدهما دياني يحكم العلاقة سراً بين الإنسان وربه، على ما هو في الواقع ونفس الأمر، وثانيهما: قضائي، يحكم بالظاهر من الأمر، وقد تكون الحقيقة والباطن على خلاف ما يحكم به القضاء!! فلا بدَّ من حكم الدين المسيطر على الوجدان والضمير.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير