تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يرى بعض علماء الاجتماع في أوروبة، في القرون الأخيرة، ومنهم "أوجست كونت" –من كبار فلاسفتها- ضرورة إقامة نظم دينية تحكم أوروبة، بما يساير تقدمها الحضاري، فكان أن اقترح "فكرة الواجب" في تشريع الحقوق، لينفي عنها "معنى الفردية في المفهوم" و "الإطلاق في التصرف" وقد أصَّل الإسلام هذا المعنى على نحو أوسع شمولاً، وأعمق جذوراً، وأنفذ أثراً، على النحو الذي رأيت في نظريته العامة.

ويفهم من هذا، أن "عنصر الواجب" ينبغي أن يشتق من الدين، ليكسب صفة الالتزام الذاتي النابع عن قناعة راسخة، مما يشعر بأن الحق ومقوماته لم يُخْلق الإنسان مزوداً بها، وإنما خلق ليكون صاحب حق بمقتضى الواجب والتكليف والمسؤولية الدينية إلى جانب المسؤولية الدنيوية المؤيدة بالتشريع الملزم، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً (أي ذا قدر وخطر وشأن؟ وإذا فسرت "هل" بمعنى "التحقيق" لا بمعنى "الاستفهام" كان معنى الآية الكريمة: "قد مضى على الإنسان زمن طويل (57) من الدهر قبل التكليف، لم يكن فيه ذا قدر وخطر وشأن يذكر".

هذا، والإنسان لا يفقد شخصيته المعنوية بداهة إلا إذا كان لا يملك حقوقه وحرياته، لأنها مقومات هذه الشخصية في بعدها المعنوي، فالإنسان بلا حقوق لَقَىً مُضَيَّع، يؤكد هذا المعنى، الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية الكريمة حيث يقول: (قد أتى على الإنسان حين لم يكن له فيه قدر، ثم لما حمل أمانة التكليف التي عجزت عنها السموات والأرض (58)، ظهر فضله على الكل وصار شيئاً مذكوراً، ذا قدر وخطر (59) " اهـ. وهذا صريح فيما قررنا، وهو ما فهمه الصحابة إذ يقول بعضهم: "أنا يوم آمنت بالله الأحد، لن أُذِلَّ نفسي لأحد" وهذا أقصى معاني الحرية وأبلغها، والإنسان –في اعتبار الإسلام- كائن حي عاقل حر مكلف مستقل مسؤول، وتكليفه منشأ حقوقه، واستقلالُهُ ليس تاماً، بل هو مرتبط بمجتمعه في دائرة "التعاون" على البر والخير المشترك، كما أسلفنا.

ولعلَّ إضفاء صفة القدر والعِظَم على الليلة التي أنزل فيها القرآن الكريم (60) ناشئ من كونه أصل الهداية والتكليف، والإنسان استمد هذا "القدر" من ذلك التكليف نفسه، لأنه في واقع الأمر "تشريف" فثبت أن "التكليف" منشأ الحق والحرية لا ذات الإنسان.

الخامس: كل حق فردي (61) أو حرية عامة –في التشريع الإسلامي- مشوب بحق الغير، فلا يتضمن معنى الخلوص لصاحبه بحيث يوليه سلطة التصرف فيه وفق ما تملي عليه رغبته، أو مشيئته المطلقة، لأنه مقيد أصلاً برعاية حق الغير –كما أسلفنا- فرعاً عما تمكَّن فيه شرعاً من المعنى الإنساني والاجتماعي إزاء الصالح الخاص، حتى غدا ذا مفهوم فردي واجتماعي معاً، وهو أصل التكافل في الإسلام.

هذا، وحق الغير الذي تجب مراعاته إبان تصرف الفرد في حقوقه، أعم من أن يكون راجعاً إلى الأفراد على استقلال، أو المجتمع أو الأمة بعامة، ولا ريب أن مراعاة هذا الأخير مفروضة على وجه أشد وآكد، لشمول النفع، وعِظَم الخطر.

هذا، وقد كيَّف الأصوليون "حق الغير" هذا بأنه "حق الله" وفسروا هذا التكييف بعِظَم خطره، وشمول نفعه، وهو ما يتضمن معنى "المصلحة العامة" قطعاً (62)، فكانت ذات "قيمة كبرى" في هذا التشريع.

-ويترتب على هذا التكييف، أنه لا يسع ذا الحق ولا غيره إسقاطُ حق الغير، بل لا خيرة له في إهداره إبان تصرفه في حقه كسباً وانتفاعاً، سلباً أو إيجاباً، على حد تعبير الإمام الشاطبي، فكان "حق الغير" عنصراً جوهرياً في مفهوم الحق الفردي ينشأ عنه أصل تقييده بمراعاته، تحقيقاً للتكافل الاجتماعي الملزم، في كافة شؤون الحياة الإنسانية، مادياً ومعنوياً على السواء.

والممعن في بحوث الأصوليين يدرك أن هذا المعنى لحق الغير يطابق ما يعرف اليوم من معنى "النظام العام" الثابت، بدليل أن مشروعية الحق" تصرفاً واستعمالاً، منوطة بمراعاته، وهذا من خصائص النظام العام، بل ترى الحق الفردي نفسه لا يستمد "قيمته" من ذاته في اعتبار الشارع، بما هو وسيلة، بل يستمدها من "الغاية" التي شرع من أجلها بما في ذلك رعاية حق الغير هذا، وهو ما أطلق عليه الإمام الشاطبي "جهة التعاون" كما أشرنا، لسبب بسيط هو أن الوسيلة تأخذ حكم غايتها، كما أسلفنا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير