(المجتمع) فإذا امتنع البائع عن بيعه عند شدة حاجتهم إليه، فقد منعهم حقهم، ومنع الحق عن المستحق ظلم" وإنه حرام (71) ". ولا يعدو الاحتكار أن يكون وسيلة للاستغلال إبان أزمات اقتصادية قائمة، أو لخلقها إن لم تكن، وأياً ما كان فهو جريمة كبرى بنص الأحاديث الثابتة.
-هذا، وقد التفت بعض الفقهاء المحدثين إلى هذا الأصل العتيد حيث يقول: "وأنه كلما اشتدت الحاجة، عظم حق الناس في الأموال المملوكة، وضيّقت حرية التصرف والانتفاع، وحرية المنع والامتناع (72) ".
هذا، ولا يترك تنفيذ مبدأ التكافل لخيرة الأفراد، بل يلزمون به إلزاماً بسلطان الدولة عدلاً، لاستناده إلى حق قد شرع أصلاً متعلقاً بحق الفرد فيما يملك "ولولي الأمر أن يتدخل بالمنع إذا تجاوز المالك حدود التصرف العادل في ملكه (73) " والعدل في الإسلام مطلق، فكان مهيمناً على تصرفات الأفراد في حقوقهم، توجيهاً لها إلى ما يقتضيه، لأن مصلحة المجتمع –كما نرى- من أقوى صور العدل في الإسلام، فلا يترك العدل المطلق للإرادات الفردية، لمكان الجشع وحب الاستغلال في نفوسهم –أثرة وأنانية- وهذا لا يفتقر إلى برهنة لأنه واقع ومشهود!
الإسلام إذ يؤصِّل مبدأ الملكية الفردية في تشريعه الاقتصادي، غير أنه لا يجعله عقبة تحول دون رعاية الصالح العام، بل يقدم هذا الأخير عند التعارض الطارئ المستحكم، وتعذُّر التوفيق.
يقول الإمام الشاطبي: "المصلحة العامة مقدمة (74) " "والحكم على الخاصة من أجل العامة" مبدأ مستقر في التشريع، كما أشرنا، وهذا عند استحالة التوفيق بين المصلحتين المتعارضتين، بشروط معروفة، فتهدر الخاصة مع التعويض العادل، إن كان له مقتضٍ، لأن إهدار المصلحة العامة، شر كبير لا يصار إليه ببديهة العقل، فضلاً عن حكمة الشرع.
وإنما اشترطنا استحالة التوفيق بين المصلحتين، لأنه بالتوفيق يرتفع التعارض حفظاً للحقين معاً ما أمكن.
هذا، وقد صاغ الفقهاء استقراء من جزئيات الأحكام التي لا تحصى في الشرع، قاعدة فقهية تؤكد مضمون الأولى، ولكنها أكثر تفصيلاً مؤداها ما نصه: "يتحمل الضرر الخاص، في سبيل دفع ضرر عام (75) ". وهذا في الحالات التي تتعارض فيها المصلحة الخاصة مع العامة، تعارضاً طارئاً مستحكماً يستعصي على التوفيق، ولو لم يكن هذا التعارض نتيجة مباشرة لقصد المكلف، بأن طرأ تلقائياً بفعل الظروف الخارجية، كالأزمات الاقتصادية القائمة، أو ظروف الحرب، فالإسلام يقدر النتائج المتوقعة أو الواقعة في حد ذاتها، ولا يجعل من الحق الخاص عقبة تحول دون رعاية المصلحة العامة، وتنميتها وازدهارها وتقدمها، بل تراه يزيل العوائق التي تعترض سبيل ذلك بتقديمها وترجيحها، كما بيّنا، استناداً إلى مفهوم "العدل" فيه، إذ المصلحة العامة –كما نوهنا- تجسِّد مفهوم العدل عملاً وواقعاً في أقوى صوره في الإسلام، وإلا فلم كانت قواعد التنسيق والموازنة تقضي بترجيح الصالح العام بالإجماع، من مثل ما قدمنا عن الإمام الشاطبي قوله: "المصلحة العامة مقدمة (76) " ومن مثل: "يتحمل الضرر الخاص، في سبيل دفع ضرر عام (77) ".
قواعد التنسيق (78) والموازنة عند التعارض بين المصلحة الفردية والعامة إبان تصرفات الأفراد في حقوقهم، أو ممارساتهم للحريات العامة، تحصيلاً لمصالحهم الخاصة في الواقع المعاش، هذه القواعد هي –في الأصل- خطط تشريعية يلتزمها المجتهد أيضاً في استنباطه للأحكام الاجتهادية من مصادرها في ظل الظروف الملابسة للمجتمع والدولة في كل عصر، فكانت قواعد للتنسيق يلتزمها الحاكم أو القضاء، في الحكم على الوقائع المعروضة، كما هي قواعد يلتزمها المشرع الاجتهادي في التشريع في إنشاء النظم التي تحتاجها الدولة في كافة مرافقها، سواء بسواء.
هذه القواعد ترسم الخطط التشريعية العملية، أو المنهج التشريعي للاجتهاد العملي في استنباط نظم فرعية من مصادرها، مما تحتاجه الدولة في مختلف الشؤون من سياسية واقتصادية واجتماعية، استجابة لما تقتضيه المصلحة العامة واقعاً وعملاً في ظل ظروفها الملابسة، فضلاً عن كونها قواعد يحكم على ضوئها بالترجيح بعد الموازنة، في الوقائع الجزئية نتيجة للتصرفات الفردية.
الأساس الواقعي الذي ينهض عليه هذا الأصل في فلسفة التشريع الإسلامي:
¥