وإذا كان لنا من تعليق على عبارة الأستاذ الكبير، فهو وجوب تقييد إطلاق عبارته، بما لا يمس أصلاً قاطعاً في التشريع، لأن هذا في الأساسيات المحكمات التي لا يجوز تأويلها أو تغييرها، لأنها من النظام العام الثابت، وليكن ما قرره خاصاً بالمباحات والحريات العامة. هذا، وتقييد المباح بالوجوب أو المنع، لمصلحة تقتضي ذلك، جائز بالإجماع، إذ لوليِّ الأمر أن يوقف العمل بالمباح إذا أفضى استعماله- في ظرف معين- إلى ضرر راجح يمس مصلحة المجتمع، أو يوجبه، ويلغي جانب الترك فيه، إذا كان في هذا الإيجاب تحقيق للصالح العام، لما قدمنا أن المصلحة العامة واجبة الاعتبار والتقديم على الإباحات الجزئية، أو التصرفات الفردية، عند التعارض المستحكم، لسبب بسيط ومعقول، هو أن دفع الضرر اللاحق بالمجتمع من جراء ممارسة بعض الأفراد لحرياتهم، أرجح مصلحة مما يحصِّلون لأنفسهم من المصالح الشخصية، في هذه الحال، على تقدير إطلاق حريتهم، وعدم تقييدهم، فكان هذا أساس المنع من ممارسة الإباحة الفردية.
هذا، وإيقاف العمل بالمباح، هو كما يدل عليه مفهومه، "موقوت" بزوال الظرف الذي أدى إلى الضرر العام، حتى إذا زال المانع عاد الممنوع، وهذا هو معنى تغير الأحكام بتغير الأزمان، أي بتغير الظروف والعوارض الطارئة، وفي هذا المبدأ من المرونة والسعة ما لا يخفى!
ومفاد هذا، أن الفعل المشروع، يصبح غير مشروع، إذا أفضى إلى مآل ممنوع، وهو الضرر الراجح (81).
وسبيل ذلك إجراء الموازنة، مع ضرورة الاستعانة بعنصر الخبرة العلمية المتعلقة بموضوع الحكم، كما أسلفنا.
تحقيق التوازن من أصول العدل في الإسلام، وذلك بين المصالح والمضار نتيجة لكل تصرف مشروع في الأصل.
يجب تحقيق "التوازن" بين المنافع والمضار الناتجة عن كل فعل مشروع في الأصل، تحقيقاً للمصلحة الراجحة، وهو من أصول العدل في الإسلام.
وعلى هذا، فما غلب نفعه شرع، وما غلب ضرره، منع، ولو كان في الأصل مشروعاً، بالنظر إلى مآله، لا بالنظر إلى أصله من حيث هو، لأن الحقائق لا تتبدل، وإنما يتبدل الحكم تبعاً لتبدل المآلات بفعل العوارض الطارئة، وفي هذا من المرونة ما لا ينقضي الإعجاب منه، وليس هذا الأصل مراعى في التشريعات الفردية.
هذا، وإذا تهاون الأفراد في رعاية المصلحة العامة، أو جهة التعاون –على حد تعبير الإمام الشاطبي- فإن على الدولة أن تلزم الأفراد بذلك بتشريعاتها الملزمة، ولو كان ذلك التهاون عن حسن نية، أو سذاجة أو قصور إدراك، وقد صور الرسول (هذا المعنى في حديث السفينة أروع تصوير، نرى من الضروري إيراده هنا للتوضيح في صورته المادية الحيوية المجسمة، مع استخلاص النتائج والثمرات الفقهية والأصولية من منطوق الحديث الشريف وفحواه، لصلتها الوثيقة بموضوع البحث.
تصوير حي مجسَّم للتكافل الاجتماعي الملزم شرعاً في جميع مجالات الحياة، ومسؤولية المجتمع والدولة عن تصرفات الأفراد في حقوقهم وحرياتهم، ولو كانت ببواعث حسنة، إذا ما قَصُرَ نظر الفرد عن إدراك مآل تصرفه في حقه، غفلةً منه أو سذاجة، أو ضيق أفق، أقول تصوير حي مجسم للتكافل ينهض به حديث السفينة.
مؤدى الحديث الشريف: [أن قوماً ركبوا سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها، إذا أرادوا أن يستقوا، مروا على من فوقهم، فقال أحدهم: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن تركوه، هلك وهلكوا جميعاً].
ويستنتج من الحديث الشريف، قواعد تشريعية أصولية تتصل بالنظرية العامة للشريعة الإسلامية، وما قامت عليه من مفهوم الحق، والحرية، ومدى وجوب الإشراف على تصرفات الأفراد، نوجزها فيما يلي:
أولاً: إن الفرد –في الحديث الشريف- يتصرف في حقه، لقوله: "لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً" فهو إذن ليس متجاوزاً، ولا معتدياً على حق غيره، وإنما يتصرف في حدود نصيبه الخاص، وفق منطوق الحديث.
ثانياً: حسن نيته في هذا التصرف واضح، لقوله: "ولم نؤذِ من فوقنا" وهذا صريح في انتفاء قصد الإضرار لديه، غير أن حسن النية هنا، عن غفلة أو سذاجة، أو قصور إدراك للعواقب –فيما يبدو- مما يستوجب الإشراف والتوجيه ثم المنع.
¥