ثالثاً: اتجه قصده إلى "التوفيق" بين مصلحته الخاصة في الاستقاء، وبين مصلحة من هم في أعلى السفينة –في الوقت نفسه- بعدم إيذائهم بالمرور من فوقهم، بل بنية دفع الضرر عنهم، ولكنه –فيما يبدو- أخطأ التقدير، لعدم تبصره بمآل تصرفه في نصيبه وحقه على هذا الوجه.
رابعاً: التصرف الفردي الساذج –دون وعي وتبصر في العواقب، وفي حدود الحق –قد يفضي إلى ضرر عام بل وخطير أيضاً، بما يفيده منطوق الحديث، إذ قد يتعلق بالمصير، وهذا ممنوع شرعاً، ولو كان التصرف في الحق –في الأصل- جائزاً ومشروعاً، لقول الإمام الشاطبي: "وهو منع الجائز، لئلا يتوسل به إلى الممنوع (82) " وقد انعقد الإجماع على هذا الأصل. ولا ريب أن الحق لم يشرع، ويمنح لصاحبه شرعاً، لهذا المآل، قطعاً، فكان على النقيض من قصد الشارع.
هذا، وقد يكون ما يفضي إليه تصرف الأفراد من مصير، أمراً داخلياً أو دولياً، وأياً ما كان، فهو مآل ممنوع قطعاً يُمنع التسبب فيه بنص الحديث الشريف، إذ المآل هو الأصل في التكييف الشرعي، كما قدمنا.
خامساً: أن الفرد ينبغي ألا يتعنت، أو يستبد برأيه الناشئ عن خطأ في التقدير، بزعم أنه يتصرف في حقه، سذاجة وغفلة ودون تبصر بالأضرار التي تلحق مجتمعه الذي يشاركه الحياة، كما يشاركه في وحدة المصير "فإن أخذوا على يديه، نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا جميعاً".
سادساً: تقييد حرية الأفراد في تصرفاتهم في حقوقهم، ليس استلاباً لها، أو امتهاناً لهم، أو انتقاصاً من شخصيتهم المعنوية، كما يظن خطأ، وسوء تقدير، أو جهلاً بحقائق الإسلام، وأصول تشريعه، وإنما هو تقييد اقتضته الضرورة لحمايتهم هم أولاً، وصوناً لكيان مجتمعهم، ووقاية لهم جميعاً مما عسى أن يؤدي بهم إلى سوء المصير، وهذا ما ينهض دليلاً قوياً على قيام الصلة الوثقى التي تربط بين الفرد ومجتمعه، حياة ومصيراً، فلا يتصور الانفصال بينهما بحال. فتبين بجلاء، أن التقييد بالتشريع ليس عبثاً، ولا تحكماً ولا إعناتاً، ولا استلاباً لحرية، ولا هضماً لحق، وإنما كان "حماية" وإقصاء وتجنيباً للفرد والمجتمع كليهما عن كل تسبب يؤدي بهما إلى سوء المآل، وهذا هو ما ينهض بعنصر "المعقولية" في مفهوم "المصلحة" في شرع الإسلام، وليس في الخروج على مثل هذه "المصالح" معنى معقول يسوغه، إن لم يكن سفهاً وإجراماً.
سابعاً: الحديث الشريف بإطلاقه يشمل التكافل الملزم في شتى مناحي الحياة: الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والحربية، وغيرها، إذ لم يخصَّص هذا التكافل بناحية دون أخرى، لإطلاق النص، كما يلقي بالمسؤولية الدنيوية والأخروية على الكافة "فإن أخذوا على يديه" فيشمل بعمومه الأمة كلها، وباعتبار أن الدولة تمثل الأمة، كانت مسؤولة نيابة عنها، وهي عين المسؤولية المقررة في حديث: "الإمام راع ومسؤول عن رعيته" أي عن الأمة بعامة، والمسؤولية عنهم هي المسؤولية عن مصلحتهم العامة. بداهة.
ثامناً: بيَّن الحديث أن "التضاد" العارض المستحكم بين الفرد والمجتمع، أمر لا وجود له في هذا التشريع، ولا يجيز الإسلام قيامه، أو التسبب فيه، بل يوجب دفعه قبل الوقوع، اتقاء لسوء العاقبة، لأن دفع الضرر قبل الوقوع أوجب من رفعه وإزالته بعد الوقوع، وقد لا يمكن رفعه في بعض الحالات والظروف، وإلا فما معنى نص الحديث "هَلَكَ وهلكوا جميعاً"!
"فالتضاد" يجب الحيلولة دون وقوعه، بمنع التسبب في إحداثه، ولو تحت ستار الحق، سداً للذريعة، وهو مبدأ مجمع عليه، كما قدمنا (83).
تاسعاً: يجب منع التسبب ولو بالقوة، وسلطان الدولة وهذا مستفاد من نص الحديث: "فإن أخذوا على يديه" وهو المنع إكراهاً، وذلك حملاً له على التكافل الملزم الذي يوجبه وحدة المصير!
عاشراً: "عنصر الواجب" في مفهوم الحق الفردي واضح في نص الحديث، وحكمه، وهو المعنى الاجتماعي والإنساني الذي ضمَّنه الإسلام مفهوم الحق والحرية الفردية، وإلا فلم كان "المنع" إكراهاً وبالقوة؟؟ لوقاية المجتمع بلا ريب!
وهو المعنى الذي تنهض عليه "الوظيفة الاجتماعية" للحق في الإسلام، وهذا معنى جديد أتى به الإسلام في مفهوم الحق دون سائر الشرائع، وبيان ذلك:
¥