تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لما يقع من الضرر على فرد واحد، فلأن يكون هذا الحكم عينه بالنسبة للضرر الواقع على المجتمع من باب أولى، لتقرُّر علة الحكم هنا بصورة أشد، فكان الحكم مترتباً بصورة آكد، دفعاً للضرر الأعظم.

على أنا قد قدمنا، أن "الصالح العام" هو الأصل في الاعتبار شرعاً عند التعارض الطارئ المستحكم، وإنه الإطار الذي ينبغي أن تدور في فلكه المصالح الفردية، أو الحريات العامة، دون انفصال عنه، أو افتئات عليه، أو مناقضة له، لأنه "حق الله" الذي لا يجوز إسقاطه، أو إهماله، أو النزول عنه، أو الاتفاق على خلاف ما يقتضيه، أو بعبارة أخرى لأنه "من النظام الشرعي العام الثابت" إجماعاً، لعظيم خطره، وشمول نفعه، على حد تعبير الأصوليين (89).

وتأسيساً على هذا، لا يسع مالك الأرض مثلاً أن يتركها بوراً دون استثمار، تعطيلاً لها دون مسوّغ معقول، لأنه ما منح حقاً إلا ليؤدي واجباً، ولأن "عنصر الواجب" جوهري في مفهومه –كما قدمنا- ولا سيما إذا كانت الأمة- حسب تقرير الخبراء- في حاجة ماسة إلى الإنتاج، أقول تركها بوراً بدعوى أنه حر التصرف في حقه، بل تتقرر حريته في التصرف في حقه من خلال الصالح العام، إذ لا يخلص حقٌّ لفرد في شرع الإسلام، إلا أن يكون حق المجتمع متعلقاً به، وعنصراً جوهرياً في مفهومه، فيجبر على ذلك من هذا الوجه، فكان موقفه "السلبي" هذا محرماً شرعاً، لإخلاله بمبدأ التكافل الملزم بينه وبني مجتمعه، إذ لا يجوز له التخلي عن أداء ما تستلزمه حاجة المجتمع وهو قادر، وقد بينا، أن حق المجتمع لا يجوز إهماله، ولا النزول عنه، ولا مخالفة ما يقتضيه، لأنه "حق الله" صِرفاً في حق الفرد، كما يقول الإمام الشاطبي، وعلى هذا انعقد الإجماع، بدليل قواعد الترجيح المستقرة في الشرع.

وأيضاً، أساس مشروعية الحق –كما بينا- جلب المصالح، ودرء المفاسد والأضرار، اتساقاً مع الأصل العام الذي قام عليه التشريع كله، فإذا غدا الحق مجلبة للضرر العام، أو وسيلة مفضية إليه في ظرف من الظروف، فقد عاد على أصل تشريعه بالنقض، ومناقضة الشرع باطلة، فما أدى إلى ذلك باطل، فيمنع من التسبب فيه، فالمناقضة –كما ترى- ليست من الشارع، وإنما هي من فعل المكلف.

وأيضاً، إهمال استثمار الأرض تضييع للمال مآلاً، وتضييع المال حرام قطعاً، بل في ذلك قضاء على مصارف الزكاة من هذا المال، ولا يجوز التسبب في ذلك البتة، ومن تلك المصارف الفقراء ومرافق الدولة! والزكاة أصل اعتقادي في وجوب التكافل الاجتماعي الملزم، فلا يجوز نقضه أو العمل على خلاف ما يقتضيه، وإلا تسرب سبب النقض إلى أصل الاعتقاد!

هذا، ولا يَسَعُ مالك الأرض أيضاً أن يزرع ما يشاء ويختار من صنوف الحاصلات والثمار، إذا كانت الأمة قد بلغت بها الحاجة الماسة إلى نوع أو أنواع معينة منه، سداداً ووفاء لها، خشية الاعتماد على الدول الأجنبية في تغطيتها بأثمان باهظة، وفي هذا من الضرر العام ما لا يخفى، فإذا قضت الخبرة الزراعية أو العلمية الاقتصادية بوجوب استثمار نوع معين من الحاصلات أو أنواع منها، اشتدت حاجة الأمة إليها، فلا يسع الزراع مخالفة ولي الأمر في ذلك، بل يجبر على القيام بواجبه، لأن ما تقضي به القواعد المقررة، بالنسبة إلى ولي الأمر: "أن تصرفه على الرعية منوط بالمصلحة (90)، أي بمصلحة الأمة، ولأن جهة "التعاون" تشمل كل أولئك، وعنصر الخبرة العلمية مقوّم أساسي من مقومات العدل في الإسلام، على ما بينا، وإسقاط حق الأمة، أو التصرف على خلاف ما يقتضيه، محرم شرعاً، لإسقاط المعنى الاجتماعي والإنساني في مفهوم حق الفرد، ولأنه "حق الله" –كما بينا- وهو مناط المشروعية، فتسقط هذه المشروعية لانتفاء مناطها، إذ لا انفصال لحق الفرد عن حق المجتمع، تكافلاً ملزماً شرعاً، وفي هذا المعنى يقول بعض الفقهاء المحدثين: "والأساس في ذلك، هو أن الحقوق مهما تكن شخصية، لا يمكن أن تكون منفصلة انفصالاً كاملاً عن حقوق الناس (المجتمع) (91) ".

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير