تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي هذا المعنى يقول الامام الشاطبي ـ وهو الأصولي الثبت ـ ما نصه: (تعريف القرآن للأحكام أكثره كلي لا جزئي. وحيث جاء جزئيا فمأخذه على الكلية) (1). ويعلل الإمام الشاطبي هذا المنهج في التشريع القرآني، فيقول:

(وإذا كان القرآن كذلك فهو على اختصاره جامع، ولا يكون جامعا إلاّ والمجموع فيه أمور كليات).

هذا، وعلى الرغم من أن السنة جاءت مبينة لما اجمل القرآن في (مفاهيمه الكلية) بقوله تعالى: (و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (2). وبقوله (ص) (أعطيت القرآن، ومثله معه) فإنه من المعلوم أن الوقائع المستجدة لا تنحصر بدليل: أن كثيرا من النوازل وما ينشيء الناس والدول في كل عصر من تصرفات وعقود قولية أو فعلية لا تزال عارية عن أحكام الشرع، ولاسيما على الصعيد الدولي، مما يفتقر إلى اجتهاد علمي من أهله لتغطية هذه الوقائع والمستجدات والعلاقات الدولية بالأحكام الشرعية في ضوء ما بثت الشريعة من (مفاهيم كلية) وما فسرت (السنة) من أحكام جزئية تتعلق كلها بمصالح حيوية ذات طبائع مختلفة، عامة كانت أم خاصة، فضلا عن المقاصد العامة الأساسية.

وفي تصوري أن هذا الأسلوب البياني الرائع المعجز الذي اتخذه القرآن الكريم من اصطفائه (للمفاهيم الكلية) لتشريع الأحكام غالبا إنما يفسر على اساس أن هذا إيمان من قبل المشرع الحكيم (جل جلاله) إلى المجتهدين في كل عصر أن يسلكوا هذا (المنهج التشريعي) إبان استنباطهم للأحكام، الفرعية أو الجزئية التي يفتقر إليها المجتمع والدولة لتدبير شؤونهما، فيما يعرض لهما من حاجات تفتقر إلى ما يغطيها من أحكام هذا التشريع، وذلك بأن يتنزل (المفهوم الكلي) على ما يتحقق فيه مناطه؛ كيلا يقع التخالف، أو التناقض بين الأحكام الجزئية الاجتهادية من جهة، وبين (المفاهيم الكلية) المنزلة وحيا في القرآن الكريم من جهة أخرى، دون بتر أو فصل للحكم الفرعي العملي عن (مفهومه الكلي) الذي يندرج تحته. وفي هذا ضبط لعملية الاجتهاد، وتضييق لهوة الخلاف بين المجتهدين في اجتهاداتهم الفردية الفرعية للمسائل العملية التي تطرأ.

وعلى هذا، ينبغي أن لا يكون ثمة انفصال بين (الجزئي والكلي) من المفاهيم القرآنية التي تؤلف في مجموعها بنيانا تشريعيا محكما جاء على وجه نشأت عنه المعجزة الإلهية الخالدة.

الاجتهاد التأصيلي والفروعي:

وأيضا، هذا (المنهج التشريعي) يقتضيه النظر الكلي العام للتشريع الإلهي على ما يقرره الإمام الشاطبي ـ ليجعل من الاجتهاد التشريعي من قبل المجتهدين في كل عصر تطبيقا أمينا (للكليات) من المفاهيم العامة المطلقة للقرآن العظيم، وفي هذا المعنى يقول الامام الشاطبي في بيانه الأصولي الدقيق ما نصه:

(إن الجزئيات لو لم تكن معتبرة ومقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله؛ لأن الكلي ـ من حيث هو كلي ـ لا يصح القصد في التكليف إليه؛ لأنه راجع لأمر (معقول) لا يحصل في الخارج إلاّ في ضمن الجزئيات، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق، وذلك ممنوع الوقوع ... (فإذا كان لا يحصل الكلي إلاّ بحصول الجزئيات) فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات) (3).

ومعنى هذا بيّن نلخّصه فيما يلي:

إن (المفاهيم الكلية) في القرآن الكريم الذي جاء بها أسلوبا فذا معجزا في بيانه للأحكام ـ أمرا ونهيا وإخبار يتضمن معناهما ـ هي بطبيعتها معان عقلية مجردة، ـ عامة ومطلقة ـ لا يمكن أن تتحقق بذاتها في الوجود الخارجي إلاّ في ضمن جزئياتها، أو من خلال ما يندرج في كل منها من فروع ووقائع عملية يتحقق فيها (مناط المفهوم الكلي) الذي تندرج فيه. وهذا ـ بلا ريب ـ منهج علمي تشريعي يضبط عملية الاجتهاد، ثم هو أمس بمعنى: (التشريع) الذي يتسم بطابع العموم والإطلاق من ناحية، وأقوى من الاستجابة لسنة التطور والتغير في الحياة الإنسانية من (التشريع الفروعي) من ناحية أخرى؛ لاستعصاء هذا الأخير على العمومية والإطلاق والعجز بالتالي عن استيعاب المستجدات إلاّ عن طريق (القياس) وهذا وان اتسع عقلا مجاله، لانسحاب الحكم القياسي على غير المنصوص عليه منطقيا لاتحاد العلة، يغدو عمومه عقليا؛ لعموم علته ظنا راجحا، في حين أن (الكليات) وإن كانت مفاهيم كلية غير أنها مصوغة بنص عام يستغرق ما لا يحصى كثرة من الفروع التي تندرج في كل منها

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير