تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

(اعلم: أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة ـ دنيوية وأخروية ـ تجمع كل قاعدة منها (علة واحدة)، ثم (استثنى) منها ما في ملابسته مشقة شديدة، أو مفسدة تربي على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء المفاسد في الدارين، أو في إحداهما، تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم (استثنى) منها ما في اجتنابه مشقة شديدة، أو مصلحة تربي على تلك المفسدة، وكل ذلك رحمة بعباده، ونظر لهم، ورفق، ويعبر عن ذلك كله بما (خالف القياس) وذلك جاء في العبادات، والمعارضات، وسائر التصرفات) (12).

وهذا صريح ـ كما ترى ـ بأن الظروف والأحوال الملابسة عامل مؤثر في تغيير ما ينجم عن تطبيق الحكم الشرعي الفرعي على الوقائع في ظل ما يلابسها من عوارض.

أقول: ما ينجم أو يلزم عن ذلك من نتائج أو مآلات هي: أضرار أو مفاسد تربي على ما كان قد قرر لها الشارع من (مصالح) حين تشريع الحكم الأصلي ابتداء، لتلك الوقائع عرية عن الظروف التي لا بستها بحكم تطور الزمن، فتخرج حينئذ من قاعدتها الأصلية الأولى لتدخل في قاعدة أخرى تناسب (المال) الذي اقتضاها.

ذلك؛ لان (المفسدة) إذا كانت تربي على ا لمصلحة فالعبرة بالحكم الشرعي الراجح بعد الموازنة، فيكون الحكم في مثل هذا المقام سلبيا، دفعا للضرر الراجح الذي نجم عن تغير الظروف؛ لأن مفسدة المآل غلبت مصلحة الأصل!! وهذا يحث إلى مبدأ سد الذرائع!!.

وكذلك القول فيما إذا كان الكلي العام يندرج فيه فعل محرم في الأصل، ولكن ظروف الحال استدعت إجازته استثناء لما يلحق الناس من تطبيق الحكم العام وهو التحريم ـ مشقة بالغة، وهذا ضرر عام، فيستثنى حينئذ هذا الفعل بمجرد من اللفظ العام، ليعطي حكما إيجابيا صونا للصالح العام، وهذا ما يطلق عليه (الاستحسان) وهو ـ كما يقول الإمام ابن رشد ـ: التفات إلى المصلحة والعدل!!!.

هذا الذي نقرره هنا استنادا لما ورد في القرآن الكريم، والسنة الثابتة، من (استثناءات) للوقائع التي لا بستها الظروف تصون المصالح، وتدرا المفاسد، وقررها أيضاً الأصوليون من مثل: الامام العز بن عبد السلام وغيره هو ما جاء به الإمام الشاطبي (كنظرية عامة في الاجتهاد الفروعي) ولا سيما في تطبيقات أحكام الفروع في ظل الظروف المتغيرة، مراعاة لها لتأثيرها البالغ على نتائج التطبيق، وهو ماسماه (مبدأ النظر في مآلات الأفعال) وقال: إنه معتبر مقصود شرعا، سواء كانت الأفعال موافقة مشروعة ـ أم مخالفة ـ غيرمشروعة ـ وأقام الأدلة التي تنهض بهذا الأصل العظيم الذي يستند إليه أحكام الفروع كيلا يكون التطبيق آليا، غير مستبصر بنتائج هذا التطبيق في ظل الظروف المتغايرة وهذا الأصل العظيم يحول دون اختلاف الأحكام الفروعية، وتضاربها ما دام الحكم ينهض به المآل والنتائج التي تترتب على التطبيق أثرا للظروف الملابسة!! احتذاء بتصرفات الشارع نفسه في هذا الاستثناء حسب الظروف المقتضية (13).

هذا , وتخلف الجزئي عن كلية في هذا المقام لم يكن اعتباطا، بل (الظروف واقعة، أو متوقعه) درءا للضرر الراجح جلبا للمصلحة الراجحة، وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي ما نصه:

(فعلى هذا، تخلف آحاد الجزئيات ـ استثناؤها ـ عن مقتضى الكلي، إن كان لغير عارض ـ أي: لغير ظروف وأحوال طارئة ـ فلا يصح شرعا، وإن كان لعارض فذلك ـ أي: التخلف أو الاستثناء ـ راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى أو على كلي آخر، فالأول: يكون قادحا تخلفه عن الكلي، والثاني: لا يكون قادحا) (14).

أما إذا كان النص يتعلق بتحريم مسألة جزئية خاصة تحريما قاطعا فلا يجرى فيها الاستثناء في حالة الضرورة.

وفي هذا تفسير لوجوب الاستثناء تطبيقا للأجدر من (الكليات) بما يناسب آثار الظروف من النتائج عند طروئها فعلا، أو توقع طروئها، وهذا مفاده: أن (الجمود الفقهي أو التعصب المذهبي) فيما يتعلق بالمنقولات الاجتهادية من المذاهب المختلفة لا يتفق وقواعد الأصول في الاجتهاد التشريعي المستقاة من منهج القرآن الكريم نفسه في منهجه الكلي من حيث بيانه للأحكام كما فصلنا، استندنا فيه إلى إجماع الأصوليين تلك القواعد الكلية التي تستجيب لتغير الظروف، حذرا أو اتقاء من النتائج التي لا يرضاها الشارع جراء التطبيق المرتجل ـ غير المستبصر أو الآلي ـ دونما اعتبار وتقدير للظروف المتغيرة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير