فأتى منه من ذلك خلاف كبير للسلف، وشنع هي عند مخالفيهم بدع وما أعلم أحداً من أهل العلم إلا وله تأويل في آية أو مذهب في سنة رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ أو ادعاء نسخ إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيراً وهو يوجد لغيره قليل) ا. هـ.
قال سمير: ونقل الشيخ جملة أخرى من كلام ابن عبد البر، مفادها أن الذين وثقوا أبا حنيفة أكثر من الذين تكلموا فيه وهذا الذي قاله الإمام ابن عبد البر لعله اجتهاد منه في الجمع بين أقوال الموثقين للإمام أبي حنيفة والمجرحين ولعله لم يصح عنده عنه سوى الإفراط في الرأي والقياس فلا يصح أن يحتج به على السابقين وكثير منهم عاصر أبا حنيفة أو عاصر تلامذته وبعضهم من أهل بلده أو ممن رحل إليها فقولهم أرجح ورأيهم أصوب ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم على النافي والجرح المفسر مقدم على التعديل لأن الجارح اطلع على ما لم يطلع عليه المعدل وهذه قواعد معروفة لا إخالها تخفى على المشتغلين بالعلم.
ثم ليت الشيخ اقتصر على إنصاف وتحقيق الحافظ ابن عبد البر ولم يزد عليه لكنه لم يفعل بل غلا وتعدى فنقد الأئمة ولمزهم وضعف ثقات الرواة وجرح الأثبات مما ينافي التحقيق ويجانب الإنصاف وسيأتي ذكر أمثلة عليه من كلام الشيخ في هذا الفصل والذي يليه.
[5] ص 78 ذكر الشيخ من مآخذه على الإمام عبد الله في كتابه السنة ومآخذه كذلك على الأئمة وصف أبي حنيفة بأنه كالجرب وأنه ثقيل على النفس وأنه شؤم ونبطياً () استنبط الأمور برأيه فهذه وإن صحت أسانيدها إلى قائليها إلا أنها في ميزان المذهب السلفي ساقطة من الحسبان. ذلك أن العبرة بالصلاح والتقوى وليس بالنعرة الجاهلية الممثلة في العرق والدم {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، والشؤم أمر مخالف للعقيدة فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل ولا يتشاءم) انتهى كلام الشيخ بحروفه.
قال سمير: أولاً: الذين وصفوا أبا حنيفة بتلك الأوصاف هم: أيوب السختياني والأعمش والأوزاعي وسفيان الثوري وعبد الله بن عون، وكلهم أئمة ثقات أثبات شهرتهم تغني عن التعريف بهم.
ثانياً: لم يحسن الشيخ الأدب مع هؤلاء الأئمة وكان بإمكانه أن يختار أسلوباً أرفق من هذا إذ لمزهم بـ (النعرة الجاهلية) و (مخالفة العقيدة السلفية) و (الميزان السلفي) وهذا تعدٍ منه على الأئمة واتهام منه لهم بالتجني على أبي حنيفة ولئن أكبر قولهم فيه وأنكر جرحهم له فإننا ننكر مثل هذا الأسلوب الذي اتبعه الشيخ في إنكاره عليهم وكان الأولى إن أبى إلا النقد أن يتلطف معهم ويعرض عن الألفاظ الجارحة كقوله: (ساقط في ميزان المذهب السلفي) و (مخالف للعقيدة) وليت شعري من أين عرف الشيخ وأمثاله العقيدة و الميزان السلفي إلا من هؤلاء الأئمة؟!
ولا يصح بحال أن نسكت عن نقد الشيخ للأئمة ولمزه إياهم بمثل هذا الأسلوب الذي لا يليق بمكانتهم إذ كيف يوثق بعد ذلك في كلامهم ونقلهم وعلمهم؟
ومن يقرأ كلام الشيخ يظن بالسلف ظن السوء وأنهم ظلموا أبا حنيفة وبغوا عليه بغير حق وليس ذلك لهم بخلق بل كلامهم فيه باعثه الغيرة على الدين والدفاع عن العقيدة السلفية والذب عن حوزتها فقد بلغتهم عن أبي حنيفة مخالفات وثبتت عندهم عليه مؤاخذات طعنوا فيه لأجلها وما كانت نعرة جاهلية ممثلة في العرق والدم كما زعم الشيخ القحطاني هداه الله.
وقول الشيخ: (والشؤم مخالف للعقيدة فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل ولا يتشاءم) جهل منه بالمعنى الذي أراده الأئمة حين وصفوا أبا حنيفة بأنه شؤم فإنهم لم يريدوا الشؤم المنهي عنه الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه وإنما أرادوا معنى آخر صحيحاً.
قال الحافظ في الفتح [10/ 212] عند شرحه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (لا عدوة ولا طيرة والشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة) ما نصه (وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها فجاء الشرع بالنهي عن ذلك).
وأطال الحافظ في موضع آخر من الفتح [6/ 60 - 63] في شرح الحديث المذكور ونقل عن المازري قوله: (مجمل هذه الرواية: إن يكن الشؤم حقاً فهذه الثلاث أحق به بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها).
¥