وقال أيضاً:)) ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول، من الفقهاء، كحماد بن أبي سليمان، وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم، متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد ... ((().
قال سمير: قوله:)) إن أكثر التنازع بين أهل السنة ... هو نزاع لفظي ((مفهومه أن بعض التنازع ليس لفظياً بل هو نزاع حقيقي، ومن ثم شدد السلف النكير عليهم وأغلظوا القول فيهم، وغلّطهم شيخ الإسلام من وجوه، كما تقدم.
ويدل على ذلك أيضاً قوله في موضع آخر:)) وقول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن، يراد به شيئان: يراد به أنها لوازم، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت، وهذا مذهب السلف وأهل السنة.
ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سبباً، وقد يكون الإيمان الباطن تاماً كاملاً، وهي لم توجد، وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم، وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم غلطوا في ثلاثة أوجه:
أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون العمل الذي في القلب -تصديق بلا عمل للقلب- كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكل عليه والشوق إلى لقائه.
والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون العمل الظاهر. وهذا يقول به جميع المرجئة.
والثالث: قولهم: كل من كفره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى.
وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية، لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم، ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان ... ((().
قال سمير: فلو لم يكن ثمة فرق حقيقي بين قول السلف وقول مرجئة الفقهاء، لما غلطهم شيخ الإسلام وفند حججهم وأبطل شبهاتهم.
نعم هم أقل بدعة وأهون شراً من غلاة المرجئة، من الجهمية ومن تبعهم من الأشعرية، ومن ثم لم يكفرهم السلف، وإنما كفروا الغلاة.
قال شيخ الإسلام:)) وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء ...
ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحداً منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك. وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة ... ((().
وقال:)) والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، وقالوا إن الإيمان يتماثل الناس فيه.
ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس، من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق ولا في الحب ولا في الخشية ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة ((().
وقال:)) ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازماً له، أو جزءاً منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئاً خطأ بيناً، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف ((().
ومقصود شيخ الإسلام هنا بـ "الخلاف اللفظي" أي في عدهم العمل الواجب جزءاً من الإيمان أو لازماً له، فهذا هو الخلاف اللفظي، وهو بدعة وخطأ بين لأنهم قالوا بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات.
وقد سبق الكوثري إلى تمحل الأعذار لإرجاء أبي حنيفة ورد كلام أئمة السلف في تشنيعهم عليه، ومحاولة التوفيق بين الفريقين، فتعقبه المعلمي في التنكيل [2/ 385 - 400] وفند مزاعمه.
قال رحمه الله، بعد أن ذكر قول المرجئة في عدم زيادة الإيمان ونقصانه، وأن الأعمال ليست من الإيمان:)) وهذا القول قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري إنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو: أنه لا يضر مع الإيمان عمل. ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات. بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة.
أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة، وإن وافق المرجئة في ذاك القول، فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح.
وأما من عرف، فيكفي لإنكار القول فهو مخالف للأدلة، كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة، ولا يعلم قوله: إن أهل المعاصي يعذبون، فيغتر بذلك ... ((.
¥